مما علم الله -سبحانه وتعالى- عباده بعد معرفته؛ معرفة رسله، وقد عرَّفنا ما للنبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- من الفضائل، فقد زكَّاه -سبحانه- في ذِكْره فقال: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح: 4]، وزكَّاه في خُلُقه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، كما زكَّاه في عقله فقال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)[النجم: 2]، وزكَّاه في صِدْقه فقال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم: 3]، وزكَّاه في بصَرِه فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) [النجم: 17]، وزكَّاه في حِلْمِه فقال: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128]، وزكَّاه في عِلْمِه فقال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 5]، وصلى عليه هو وملائكته وأمر بالصلاة عليه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56] فهو أكمل الناس وسيد ولد آدم، وكان تصديق ذلك مبدءًا للمدائح النبوية، وفي هذا المقال نستعرض بدايات تلك المدائح والتي بنى عليها الأدباء والشعراء بعدها حتى وقتنا هذا ثم جعلوها غرضًا خاصًا من أغراض الشعر.
أبو طالب بن عبد المطلب
وهو عم النبي-صلوات الله عليه- وكافله وناصره رغم ما كان عليه من الكفر، ولعل أول ما صححه محققو الأدباء من أشعار المدائح النبوية هي قصيدته الطويلة التي قال فيها محمد بن سلام “أروع ما قال أو طالب” (١) ، وتعدى ذلك ابن كثير فقال عنها: “وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعا” (٢) ، قال أبو طالب فيها:
كَذَبتُم وَبَيتِ اللَهِ نُبزى مُحَمَّداً * وَلَمّا نُطاعِن دونَهُ وَنُناضِلِ
وَنُسلِمهُ حَتّى نُصَرَّعَ حَولَهُ * وَنذهلَ عَن أَبنائِنا وَالحَلائِلِ
وَينهَضَ قَومٌ بِالحَديدِ إِلَيكُمُ * نُهوضَ الرَوايا تَحتَ ذاتِ الصَلاصِلِ
وقال فيها:
وَأَبيَضَ يُستَسقى الغَمامُ بِوَجهِهِ * ثِمالُ اليَتامى عِصمَةٌ لِلأَرامِلِ
يَلوذُ بِهِ الهُلّاكُ مِن آلِ هاشِمٍ * فَهُم عِندَهُ في رَحمَةٍ وَفَواضِلِ
حسان بن ثابت الخزرجي -رضي الله عنه-
وهو شاعر النبي -صلى الله عليه وسلم- المنافح عنه، قالَتْ عائِشَةُ -رضي الله عنها- فيما رواه مسلم في صحيحه (٣): (فَسَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ لِحَسَّانَ: “إنَّ رُوحَ القُدُسِ لا يَزالُ يُؤَيِّدُكَ ما نافَحْتَ عَنِ اللهِ ورَسولِهِ”، وقالَتْ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: “هَجاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى واشْتَفَى”، قالَ حَسَّانُ:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فأجَبْتُ عنْه * وعِنْدَ اللهِ في ذاكَ الجَزاءُ
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا * رَسولَ اللهِ شِيمَتُهُ الوَفاءُ
فَإنَّ أبِي ووالِدَهُ وعِرْضِي * لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنكُم وِقاءُ
وقال في تلك القصيدة:
وَقالَ اللَّهُ: قدْ أرْسَلْتُ عَبْدًا * يقولُ الحَقَّ ليسَ به خَفاءُ
فمَن يَهْجُو رَسولَ اللهِ مِنكُمْ * ويَمْدَحُهُ ويَنْصُرُهُ سَواءُ
وَجِبْرِيلٌ رَسولُ اللهِ فِينا * ورُوحُ القُدْسِ ليسَ له كِفاءُ
وأشعاره في هذا الغرض كثيرة، وأكثر منها المرثيات التي قالها بعد وفاته -صلوات الله عليه وسلامه- والتي كانت تحوي المديح، وأشهرها قصيدته التي مطلعها:
بَطَيبَةَ رَسمٌ لِلرَسولِ وَمَعهَدُ * مُنيرٌ وَقَد تَعفو الرُسومُ وَتَهمَدِ
والتي قال فيها:
يُذَكِّرنَ آلاءَ الرَسولِ وَما أَرى * لَها مُحصِياً نَفسي فَنَفسي تَبَلَّدُ
مُفَجَّعَةً قَد شَفَّها فَقدُ أَحمَدٍ * فَظَلَّت لِآلاءِ الرَسولِ تُعَدِّدُ
وَما بَلَغَت مِن كُلِّ أَمرٍ عَشيرَهُ * وَلَكِن لِنَفسي بَعدُ ما قَد تَوَجَّدُ
أَطالَت وُقوفاً تَذرِفُ العَينُ جُهدَها * عَلى طَلَلِ القَبرِ الَذي فيهِ أَحمَدُ
فَبورِكتَ يا قَبرَ الرَسولِ وَبورِكَت * بِلادٌ ثَوى فيها الرَشيدُ المُسَدَّدُ
لَقَد غَيَّبوا حِلماً وَعِلماً وَرَحمَةً * عَشِيَّةَ عَلَّوهُ الثَرى لا يُوَسَّدُ
مَعَ المُصطَفى أَرجو بِذاكَ جِوارَهُ * وَفي نَيلِ ذاكَ اليَومِ أَسعى وَأَجهَدُ
كعب بن مالك رضي الله عنه
وكان من شعراء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد حفلت كتب السير بأشعار له تحوي المديح منها قوله (٤):
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ نَتْبَعُ أَمْرَهُ … إذَا قَالَ فِينَا الْقَوْلَ لَا نَتَطَلَّعُ
تَدَلَّى عَلَيْهِ الرُّوحُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ … يُنَزَّلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ وَيُرْفَعُ
نُشَاوِرُهُ فِيمَا نُرِيدُ وَقَصْرُنَا … إذَا مَا اشْتَهَى أَنَّا نُطِيعُ وَنَسْمَعُ
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا بَدَوْا لَنَا … ذَرُوا عَنْكُمُ هَوْلَ الْمَنِيَّاتِ وَاطْمَعُوا
وَكُونُوا كَمَنْ يَشْرِي الْحَيَاةَ تَقَرُّبًا … إلَى مَلِكٍ يُحْيَا لَدَيْهِ وَيُرْجَعُ
وَلَكِنْ خُذُوا أَسْيَافَكُمْ وَتَوَكَّلُوا … عَلَى اللَّهِ إنَّ الْأَمْرَ للَّه أَجْمَعُ
فَسِرْنَا إلَيْهِمْ جَهْرَةً فِي رِحَالهِمْ … ضُحَيًّا عَلَيْنَا الْبِيضُ لَا نَتَخَشَّعُ
عبد الله بن رواحة رضي الله عنه
وهو ثالث الاثنين حسان وكعب -رضي الله عنهم-، ومما ورد في كتب السير أنه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم مؤتة فودعه وقال (٥):
إِنِّي تًفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيَر أَعْرِفُهُ * وَاللهُ يَعْلَمُ أَنْ مَا خَانَنِي البَصَرُ
أَنْتَ النَّبِيُّ وَمَنْ يُحْرَمْ شَفَاعَتُهُ * يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِهِ القَدَرُ
فَثبَّتَ اللهُ مَا أتَاكَ مِنْ حَسَنٍ * تَثْبيِتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نَصَرُوا
عبد الله بن الزبعرى ضي الله عنه
وقد كان من شعراء المشركين، وبينه وبين ثلاثة الشعراء آنفي الذكر نقائض عنيفة، حتى من الله عليه بالإسلام فاعتذر عن ذلك وأنشأ قصيدة يخاطب فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- (٦) ، ومما قال فيها:
يا خَيرَ مَن حَمَلَت عَلى أَوصالِها * عَيرانَةٌ سُرُحُ اليَدَينِ غَشومُ
إِنّي لمُعتَذِرٌ إِلَيكَ مِن الَّذي * أَسدَيتُ إِذ أَنا في الضَلالِ أَهيمُ
فَاليَومَ آمَنَ بِالنَبيِّ مُحَمَدٍ * قَلبي وَمُخطئُ هَذِهِ مَحرومُ
فَاِغفِر فِدَىً لَكَ وَالِداي كِلاهُما * زَلَلي فَإِنَّكَ راحِمٌ مَرحومُ
وَعَلَيكَ مِن عِلمِ المَليكِ عَلامَةٌ * نُورٌ أَغَرُّ وَخاتِمٌ مَختومُ
أَعطاكَ بِعدَ مَحَبَةٍ بُرهانَهُ * شَرَفاً وَبُرهانُ الإِلَهِ عَظيمُ
وَلَقَد شَهِدتُ بِأَنُّ دينَكَ صادِقٌ * حَقٌّ وَأَنكَ في العِبادِ جَسيمُ
وَاللَهُ يَشهَدُ أَنَّ أَحمدَ مُصطَفى * مُستَقبِلٌ في الصالِحينَ كَريمُ
كعب بن زهير رضي الله عنه
وهو مشهور بشهرة قصيدته المعروفة بالبردة (٧) ، ومما قال فيها:
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ * وَصَارِمٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ
فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ * بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ الْكَأْسُ وَلَا كُشُفٌ * عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مَيْلٌ مَعَازِيلُ
شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لُبُوسُهُمْ * مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
فصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وكل من نافح عنه بكلمة.
_________________________________________________
١- طبقات فحول الشعراء: محمد بن سلام الجمحي ج١ ص٢٤٤
٢- البداية والنهاية: ابن كثير ج ٣ ص٧٤
٣- صحيح مسلم: 2490
٤- السيرة النبوية: ابن هشام الحميري ج ٣ الصفحة ٦٤٤
٥- دلائل النبوة: البيهقي ج٤ ص ٣٥٨
٦- البداية والنهاية: ابن كثير ج ٤ ص٣٥٣
٧- المستدرك على الصحيحين: الحاكم برقم 6477