شهر ربيع الأول فرصة كبرى للمسلمين عامة والمسلمين في الغرب خاصة لإحياء وتجديد المحبة النبوية في قلوبهم وقلوب أولادهم؛ لتعدد أسباب فتور وضعف تلك المحبة لديهم؛ من مادية الحياة وقسوتها، قسوة تميت وتضعف العاطفة بصورة عامة حتى بين الابن وأبيه والأب وأقاربه، ثم تستمر ضعفاً إلى العاطفة النبوية، إلى كثرة الصوارف والمشتتات للقلوب والعقول، إلى حجاب اللغة وضعف المعرفة التاريخية والشرعية لدى الأجيال الجديدة بالسيرة النبوية وبالنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.
فالمحبةُ فرعٌ عن المعرفة، إلى سطوة تيار الغلو والتشدد الرافض والمبدِّع لكل محاولة شرعية منضبطة لبعث وتجديد العاطفة النبوية في قلوب المسلمين كاستثمار المناسبات الدينية والاحتفال بها، وهو ما نتج عنه ضعف أو موت تلك العاطفة تجاه الحبيب صلى الله عليه وسلم في قلوب الجيل الجديد من أولاد المسلمين في الغرب.
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل ديني كلي جامع يتفرع عنه الاقتداء والتأسي والاتباع، فغرسها وتجديدها في قلوب الأجيال الجديدة مما يتعين أن يكون من أولويات الدعاة والمصلحين في هذا الزمان متعدد الفتن، متلون الشبهات، متجدد الشبهات.
وكم دعوتُ لجعل شهر ربيع الأول في الغرب شهراً يتغير فيه لون الحياة في البيوت والمراكز الدعوية؛ فتنشط المراكز والأئمة في قراءة الكتب المعرِّفة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ككتاب «الشمائل المحمدية»، وكتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» وغيرهما، وتنظم الندوات والمسابقات، ونرى التنافس بين الأجيال الجديدة كل عام في إبداع القصائد والأشعار الغنائية التي تمدح وتعرِّف بالنبي صلى الله عليه وسلم بلغات البلدان الأوروبية المحلية، وتُنتج الأفلام التسجيلية والوثائقية، وتُرفع اللافتات بالأقوال النبوية ليعرف العالم الأوروبي من هو محمد صلى الله عليه وسلم؟ الذي لم يعد يسمع به الأوروبيون إلا في مشاهد الإساءات بالرسوم أو الأفلام، ولا يتذكر المسلمون في الغرب واجب التعريف بنبيهم إلا كلما وقعت إساءة لمقامه الشريف في رسم أو فيلم.
ويجب هنا أن أشيد بتجربتين فريدتين في السياق الأوروبي؛ الأولى: تمثلت في رفع لافتة إعلانية كبرى في وسط عاصمة أوروبية شهيرة تحمل حديثاً نبوياً في كلمات وجيزة تحت عنوان «من أقوال النبي محمد صلى الله عليه وسلم في شهر مولده: خياركم أحاسنكم أخلاقاً»، مع وضع «بار كود» يصل القارئ بصفحة أوسع للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جمعت كُلفة الحملة من عموم المسلمين في تلك المدينة في أقل من أسبوع رغم أن الكلفة اقتربت من مائة ألف يورو، وقد استقبل غير المسلمين الحدث استقبالاً حسناً، وعلقوا تعليقات إيجابية على الفكرة والرسالة التي حملتها اللوحة.
أما الثانية: فمعارض السيرة النبوية التي تخاطب الأجيال الجديدة في الغرب بلغتهم، وتطور عرض السيرة النبوية باستخدام الوسائل الحديثة من مجسمات ولوحات وخرائط ومقارنات حوارية جذابة، يتعرفون بها على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وأحداث السيرة النبوية، مع رد غير مباشر على الشبهات والإشكالات المثارة في الغرب حول النبي صلى الله وسيرته.
لقد ضاع الاستثمار الدعوي لشهر ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم في جدليات فارغة تلبس لباس الغيرة على الدين وتبدِّع وتفسِّق كل من يسعى للاحتفال بالمولد النبوي الشريف بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم يحتفلوا فكيف نفعل فعلاً لم يفعلوه؟ وبديهي أنهم لم يكونوا بحاجة لهذا الاحتفال؛ لأنه بين أظهرهم، ومحبته واقتفاء سُنته هي جوهر حياتهم، ولا يبالي أحدهم أن تدق عنقه دفاعاً وحباً للنبي صلى الله عليه وسلم، فغاية ما نريد الاحتفال لأجله لم يكن موجوداً في الزمن الأول.
ويأتي علينا شهر ربيع الأول هذا العام وقد وقعت جراحات وآلام للمسلمين في المغرب وليبيا بوقوع الزلزال والإعصار، وعندما نحتفي بشهر ربيع الأول فهو احتفاء نعود به إلى معايشة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به فيما نمر به من حوادث وأزمات، ومما نتفاعل به مع زلزال المغرب وإعصار ليبيا أن نذكر الجانب الإنساني في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نتمثله بصورة عملية، ومن صور إنسانيته صلى الله عليه وسلم خاصة في أوقات الأزمات ما يلي:
1– حبُه صلى الله عليه وسلم للتكافل الاجتماعي والمواساة:
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ» (البخاري ومسلم)، فليكن المسلمون في العالم وخاصة في أوروبا؛ لأنهم أهل يسار في الجملة مع إخوانهم في المغرب وليبيا كالأشعريين في قسمة المال معهم ولو بجزء يسير منه لينالوا محبة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته.
2- شعورُه صلى الله عليه وسلم بآلام الناس وسعيه للتخفيف عنهم:
لم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم ينتظر المحتاج وصاحب الضائقة أن يسأل أو يطلب وإنما يقرأ الأمر في عينيه وهيئته؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجلٌ على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصرَه يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهرٍ فليَعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضلٌ من زادٍ فليَعُدْ به على من لا زاد له»، «الظهر» الدابة يركب عليها، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحدٍ منَّا في فضل. (رواه مسلم).
وحاجات إخواننا في المغرب ولبيبا ظاهرة غير خافية على أحد، وكل مسلم صاحب فضل وظهر مقارنة بمن فقد كل ما يملك في الزلزال والإعصار فلْيَجُد به على من فقد بيته وكل ما يملك، وليجسد المسلمون حول العالم مفهوم ومعنى الأمة الواحدة والجسد الواحد، والأخوة الإنسانية والإسلامية.
3- حرصُه صلى الله عليه وسلم على طمأنة الناس وإشعارهم بالأمن إذا خافوا:
تجلَّت إنسانية النبي صلى الله عليه وسلم في تأمين الناس إذا وقع ما يخيفهم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وأَجْوَدَ النَّاسِ، وأَشْجَعَ النَّاسِ، قالَ: وقدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا، قالَ: فَتَلَقَّاهُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، يعني بلا سرج، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقالَ: «لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا» (البخاري ومسلم)، فقد فزع أهل المدينة لما سمعوا الصوت وبقوا في بيوتهم خائفين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ليستطلع الأمر وطمأنهم وهدَّأ من روعهم، وقد أخافت السيول والإعصار أهلنا في ليبيا، والزلزال أهلنا في المغرب، فمن نجا منهم استيقظ على فاجعة الفقد وألم الفراق وآثاره النفسية المرعبة، وواجبنا طمأنتهم والوقوف إلى جوارهم بما نملك وما نستطيع.
4- دعوتُه صلى الله عليه وسلم لكفالة الأرامل والأيتام:
من كمال إنسانيته صلى الله عليه وسلم أن ركز ودعا لإغاثة وكفالة فئات مهمشة في المجتمع كالأرامل والمساكين والأيتام ومن لا عائل لهم؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما» (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله»، وأحسبه قال: «وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم لا يفطر» (رواه البخاري ومسلم).
وقد خلَّفت الأحداث الأخيرة في ليبيا الكثير من الأرامل والأيتام، فعلينا أن نسعى لكفالتهم ورعايتهم والحرص على العمل الخفي المستدام؛ فقد تواترت الأخبار أن بيتاً لرجل من أهل درنة حماه الله من الهدم والغرق وبقي سليماً محفوظاً وحيداً بين البنايات والبيوت التي تهدمت واختفت، وقيل: إنه كان يكفل 21 يتيماً، فمن كان مع الله كان الله معه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.