في دارٍ من أعظم دور يثرب جمعًا لخلاصة الآدابِ، وتهذيب السيادة، نشأ الفتى مُعَاذُ بن عمرو بن الجَمُوحِ بن زيد الأَنْصَاري الخَزْرَجيِّ السَّلَمِي رضي الله عنه(1)، لكأنه متفرد في حكمته، مبكر إلى رجولته.
فأمَّا حكمته؛ فقد كان رجلًا من أولئكم الرجال الذين رفعوا شعار «فوق كل الأرض أوقدوا مصابيح الإسلام»، حيث أسلم قديمًا، وشهد بيعة العقبة الثانية، وعاد مع صاحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه بتصميم نادر على أن توقد مصابيح الإسلام فوق أرض يثرب، وكان أبوه عَمْرُو بن الْجَمُوحِ(2) رضي الله عنه سيدًا شريفًا في قومه بني سلمة، وكان ما يزال كافرًا، ويخصُّ داره بصنم من خشب نَجَرَهُ له النجار ودعاه منافًا، وكان شغوفًا بنظافتِهِ مولعًا بتطيبِهِ، وإذا خرج أوصى أهله به وإذا دخل سألهم عنه: ماذا فعلتم بمنافٍ في خلافتِنا؟
فاستلَّ المعاذان عزمَهُما(3) على الدعوة إلى الله بشكل عملي ومقنع يزلزل عرش الكفر في نفس عمرو، فسَخِرَا من مناف وجعلاه أضحوكة!
فعندما جنَّ الليلُ تسلَّلا إلى منافٍ وحملاه، وألقياه في حفرةٍ أفردَها بنو سلمة للفضلات، وما أن أسفر الصبح من غدٍ حتى صاح شيخ بني سلمة مادًا عقيرتَهُ(4): أين الإلهُ؟! أين الإلهُ؟!
وَجَدَّ في البحث عنه حتى وجده طريحًا على وجهه في حفرة القاذورات!
فثارَ وأرعد: ويلَكُم، من عدا على آلهتِنا الليلة؟
ثم غسَّلَهُ وطيَّبَهُ واعتذر له.. أي منافُ، والله لو أعلم من صنع بك هذا لأخزيتُهُ..!
وفي الليل تسلَّل المعاذان إلى منافٍ، وأنزلاه منزلته، ووضعاه في مكانه الأليق به، وفي الصباح استخرجه شيخ بني سلمة كالمَوْتُورِ(5) وغسَّلَهُ وطيَّبَهُ واعتذر له، وتكرَّر الأمر مراتٍ ذوات عددٍ، فضاق صدر الشيخ على قلبه ووضع سيفًا في عنق مناف وحدَّثه حانقًا: واللهِ إني لا أعلمُ من يفعل بك هذا، فإن كان فيك خير فادفع عن نفسِكَ.
وفي الصباحِ، أَلْفَى الشيخ إلهَهُ طريح الحفرةِ موثوقًا بحبلٍ مع كلبٍ ميت، وقد قضى ليلته في أحضانِهِ مستمرئاً السخرية، فصخب ذهنه، وضجَّ بَالُهُ وأنشدَ ساخطًا:
تاللهِ لو كـنـتَ إلـهًا لم تـكـنْ أنتَ وكلـبٌ وسْـطَ بـئـرٍ فـي قَــرَنٍ(6)
أفٍّ لـمـصـرعِـكَ إلـهًا مستـدنُ(7) الآنَ فـتَّشناكَ عـــن سُــوءِ الـغَــبَــنِ(8)
فالحمـدُ لله العليِّ ذي المنـنِ الــواهــبِ الــرزَّاقِ وديــانِ الـدِّيــنِ
هو الذي أنقذني مـنْ قبلِ أنْ أكـــونَ فــي ظُـلْـمَـةِ قـبـرٍ مــرتــهـنٍ
وبينما هو على حالةِ الصخبِ الذهني والضجيجِ القلبي، دنا منه بعض السادة الذين سبقوه إلى الإسلام، وخاطبوا عقله الموسوم برجاحتِهِ، وكيف لمثله أن يعبد خشبة منجورة(9)؟!
فبعث إلى قومه، فجاؤوا فسألهم: ألستم على ما أنا عليه؟ قالوا: بلى، أنت سيدنا، فقال: فأشهدكم أنني قد آمنت بما أُنْزِل على محمد.
ثم قام فاغتسل، وتطيَّب، وقَصَدَ قَصْدَ سيد المرسلين، وانضم محبًا مقتنعًا إلى كتائب الرابحين.
فهل رأيتم دعوة إلى الله أطرف، بل وأنجح وأقنع من دعوة المعاذين لشيخ بني سلمة؟!
تلكم الدعوة التي وشت بحكمتهما، ورجاحة عقليهما، وتبدى فيها الأسلوب الدعوي بشكل عملي، وأسلوب مقنع.
وأما رجولتُهُ؛ ففي يوم «بدر» الميمون خرج متشوّقاً لقتل أبي جهلٍ لمَّا علمَ أنَّهُ يَسُبّ الرمز الشريف صلى الله عليه وسلم، ووقف بين جند الله يتحرَّى أملَهُ الأثير، ويسأل عن أبي جهل، حتى هداه إليه الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، وثبَّتَ معاذٌ بصره على أبي جهل، ورأى المشركين حولَهُ يلتفون وسمعهم يصيحون: لا يخلُصُ اليوم إلى أبي الحكمٍ أحدٌ!
فثارتْ ثائِرتُهُ، وحدَّث نفسهُ هازّاً سيفَهُ: سأخلُصُ إليه فقد جعلتُه من شأني.
وما أن أَذِنَتْ الحربُ بابتداءٍ، حتى هاجَ المكانُ وماجَ بأصوات الرجال والسيوف والجياد، وتَـلَبَّدتّْ سماؤه بالغبار، واندفعَ معاذ بن عمرو نحو أبي جهل كالقذيفة وعاجلَهُ بضربة من سيفِهِ أسقطتْهُ عن فرسِه، وقطعت قدمَهُ بنصفِ ساقِهِ، وأسرع صاحبه معاذ بن عفراء وضرب أبا جهلٍ ضربةً أثبتتْهُ، وكان عكرمةُ بنُ أبي جهلٍ قريبًا من المشهد، وأرمَضَتْ(10) صورة أبيه فؤادَهُ فضرب معاذاً بن عمرو على عاتقِهِ ضربة قطعت يدَهُ وأبقتْها متعلقةً بجلدةٍ في جنبِهِ، فهل ابتعد معاذ عن ميدان المعركةِ ليُطَبِّـبَ يدَهُ؟
كلا واللهِ! فقد ظلَّ يقاتل جلدًا متماسكًا وهو يسحبُها خلفَهُ، تَصُدّهُ رجولتُهُ المبكرةُ عن الأنينِ، ويمنعهُ حبُّهُ للرسول صلى الله عليه وسلم عن الركون إلى الراحةِ، فلما أعاقتْهُ وضعها على صخرةٍ ووطأَها بقدمِهِ وتمطَّى وقطعَها.
وبينما كان أبو جهلٍ ينازع آخر أنفاسِهِ أجهز عليه عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه بحزِّ رأسِهِ، وتسابق المعاذان بخبرِهِ إلى النبي يودَّان إسْعادَهُ وإشْعارَهُ بأنهما فداءٌ لهُ، فسألَهما صلى الله عليه وسلم: «أَيُّكُمَا قتلَهُ؟»، فتسابقا مغبوطين محبورين: أنا قتلتُهُ، فسألَهما: «هل مسحتُما سيفيكُما؟ قالا: لا.. فنظر صلى الله عليه وسلم في السيفين وقال باسمًا: «كِلاكما قتلَهُ(11).
ولسبب أو لآخر، أدرك صلى الله عليه وسلم أن الفضل الأوفر في قتل أبي جهل كان لمعاذ بن عمرو، ولقوله الشريف: «من قتل كافراً فلَهُ سَلَبُهُ»(12)(13)، حكمَ في غنيمة أبي جهل لمعاذ بن عمرو.
ربما نظر صلى الله عليه وسلم في السيفين ليعرف عمق ضربة كل منهما، وربما كان لمعاذ بن عمرو السبق في ضرب أبي جهل مما يسر على معاذ بن عفراء ليضرب ضربته، وربما لأن معاذاً بن عمرو هو الذي قُطعت يده(14).
وبعد، فقد تربع معاذ بن عمرو رضي الله عنه على قمةٍ سامقةٍ في الآفاقِ المسلمةِ وطارتْ ذكراهُ فيها مترنمة، وعاش منافحًا عن الإسلام، وعندما دخلت الدنيا في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ما نحسب الجنَّة إلَّا وقد تاقت لمعاذ بن عمرو قدر ما تاق إليها، فسبق صاحبه معاذاً بن عفراء إلى هناك، وما أدراكم ما هناك، نضَّر الله روحه هناك، فقد كان له هدف مرسوم حثّ الخُطى إليه، وطريق معلوم سعى بصدق عليه، وأتعب الفتيان من بعده.
_________________________
(1) البداية والنهاية (3/ 287)، التاريخ الكبير (7/ 360)، سير أعلام النبلاء (46)، الإصابة (8069)، الاستيعاب (2451)، أسد الغابة (4969).
(2) سير أعلام النبلاء (49)، الإصابة (5814)، الاستيعاب (1925)، أسد الغابة (3891).
(3) معاذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل وقد عقدا النيَّـة الصادقة.
(4) رافعًا صوته.
(5) كالذي قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الأَخْذِ بثَأْرِهِ.
(6) مقرون بحبل مع الكلب.
(7) مستدن: مستذل.
(8) الغبن: الخداع.
(9) صنم صنعه له النجار.
(10) أوجعت وأحزنت.
(11) حديث صحيح: أخرجه البخاري (3141) في كتاب فرض الخمس، ومسلم (1752) في كتاب الجهاد.
(12) له غنيمة المقتول مثل فرس ونحوه، وسلاحه، وما يلبسه من درع وثياب.
(13) حديث صحيح: أخرجه أبو داود (2718)، وأحمد (13975)، وصححه الألباني.
(14) اختلفت المصادر في من الذي ضرب أبا جهل أولاً معاذ بن عفراء، أم معاذ بن عمرو، ومن الذي ضربه عكرمة بن أبي جهل على عاتقه ضربة تسببت في قطع يده، حيث نسبت بعض المصادر الفعلين لأحدهما، ونسبتها أخرى للآخر، وربما كان معاذ بن عمرو؛ لذا حكم له صلى الله عليه وسلم بسلب أبي جهل.