الخيارات السياسية في مرحلة المفاوضات مع الطليان
في أكتوبر 1912م، تم التوقيع على وثيقة اتفاقية بين ممثلي الحكومة التركية ونظرائهم من الحكومة الإيطالية في مدينة أوشي لوزان بسويسرا، كانت فحوى هذه الاتفاقية تنص على تخلي الحكومة التركية عن ولاية طرابلس الغرب، في إشارة لحكم ذاتي تحت الإدارة الإيطالية مع احتفاظ السلطان بالسلطة الروحية فقط.
لم يحظ هذا الصلح المبرم في أوشي لوزان باعتراف الكثير من القيادات الجهادية في ليبيا، وصدر عنهم بيان يرفض الصلح المبرم، وكان على رأس الرافضين لهذا الصلح الشيخ عمر المختار، رحمه الله، وهذا الاختيار جاء نتيجة طبيعة للخلفية الدينية التي تربى عليها المختار وباقي المجاهدين؛ باعتبار هذا الصلح المفروض بقوة السلاح على المسلمين يقر بولاية المحتل الكافر على شعب مسلم مغتصب لأرضه.
كان مضمون البيان الرفض الصريح لوثيقة الصلح، مع الولاء والاحترام للسلطان من منطلق احترامهم وحبهم لمقام الخلافة الإسلامية التي كانوا يدينون بالولاء لها.
تولى إدريس زعامة الحركة السنوسية سنة 1916م بعد أن سلمه القيادة ابن عمه أحمد الشريف الذي تولى قيادة الحركة بعد وفاة الإمام المهدي السنوسي، والد إدريس، بوصية منه حتى يبلغ إدريس السن التي تؤهله للقيادة.
وكانت أحداث هزيمة السنوسيين في حربهم ضد الإنجليز عاملاً مهماً في تراجع أحمد الشريف وتسليم راية السنوسية لقيادة شابه تحمل مشروعاً نضالياً جديداً تمثل في قيادة إدريس السنوسي الذي دخل في مفاوضات مع الطليان في منطقة زويتينة، ثم تلتها مفاوضات عكرمة، التي أنهت باتفاقية تسوية مؤقتة بين الطرفين، سميت باتفاقية «الرجمة»، في 20 أكتوبر 1920م.
وتنص هذه الاتفاقية على: منح محمد إدريس السنوسي لقب «أمير» (وهذا اللقب كان يطلقه عليه قادة الجهاد من قبل في مراسلاتهم منذ عام 1918م)، ويكون الحكم وراثيًّا، كذلك الاعتراف به رئيساً لحكومة ذات استقلال ذاتي، وتشمل إدارة الأجزاء التالية: واحات الجغبوب وأوجلة وجالو، مع منحه حق الإقامة في مدينة أجدابيا كمقر لحكومته.
بعد خروج الأمير إدريس السنوسي إلى مصر، استمر عمر المختار في تمثيل الحركة السنوسية كوكيل للأمير إدريس كقائد عام لأدوار المقاومة في برقة.
وبوصول الجنرال بادوليو طرابلس يوم 24/ 1/ 1929م الذي أمر نائبه في برقة بالاتصال ببعض الأعيان وتكليفهم بالاتصال بعمر المختار ودعوته إلى الحوار لوضع حد للقتال الذي ناهز العشرين سنة.
المفاوضات في منطقة سيدي أرحومة
سعى بادوليو فور استلامه مهام عمله كحاكم لطرابلس وبرقة نحو استمالة المجاهدين إلى المفاوضة، إذ أراد أن يضع برنامجه الواسع موضع التنفيذ، فطلب من أحد القادة العسكريين، وهو العقيد باريلا، أن يُعلم عمر المختار برغبته بالاجتماع به للمفاوضة في شروط الصلح، فاشترط المختار على الحكومة الإيطاليَّة أن تُظهر حسن نواياها، وذلك عبر إطلاق سراح محمد الرضا السنوسي شقيق الأمير إدريس وإعادته إلى برقة من منفاه، ولم يقبل الاجتماع مع أي مسؤول إيطالي قبل حصول ذلك.
وبعد عقد عدة جولات تفاوضية صعبة، لم يتوصل فيها الطرفان إلى نتائج مرضية، وخلالها خيَّر مفوَّض الحكومة الإيطاليَّة عمر المختار بين ثلاثة أمور: الذهاب إلى الحجاز، أو إلى مصر، أو البقاء في برقة، فإذا رضي بالبقاء في برقة أجرت عليه الحكومة مرتبًا ضخمًا وعاملته بكل احترام، ولكن المختار رفض هذه الإغراءات رفضًا قاطعًا متمسكاً بما تعلمه من قيم إسلامية لا تقبل المساومة ولا كل المغريات على حساب الدين والوطن.
وفي 26 مايو 1929م، بدأت المفاوضات من جديد، فحضر المختار إلى مكان قريب من القيقب، وفي هذا الاجتماع قدّم الوفد الإيطالي شروطاً جديدة تخدم مصالحها تستوعب بها المجاهدين وتستحوذ على حركة الجهاد إن نجحت في ذلك.
منها تسليم المجاهدين نصف سلاحهم مقابل ألف ليرة للبندقية، وضم نصف المجاهدين الآخر الذي احتفظ بسلاحه إلى تنظيمات تنشئها الحكومة لفترة من الزمن يُتفق عليها إلى أن يتم إعداد المكان المناسب لإقامتهم وتموينهم ومراقبتهم، ولم تتضمن تلك الشروط أي حق سياسي لليبيين، فكانت محل رفض مطلق وبشدة من المختار، خاصة فكرة نزع السلاح من المجاهدين بأي صورة كانت.
عُقد اجتماع ثالث في منطقة قندولة بالجبل الأخضر حضره عدد من قادة المقاومة، وعدد آخر من الأعيان والمشايخ، ولم يُخف المختار في هذا الاجتماع شكوكه في نوايا إيطاليا، فطلب حضور مراقبين من مصر وتونس يشهدون على الاتفاق الذي يتم التوصل إليه؛ كما وضع عشرة شروطٍ لعقد صلح مع إيطاليا من بينها المساواة بين الليبيين والمستوطنين.
وعندما وجد المختار أن تلك المفاوضات تطلب منه إما مغادرة البلاد إلى مصر أو الحجاز أو البقاء في برقة وإنهاء حركة الجهاد مقابل الأموال والإغراءات، رفض كل تلك العروض المغرية، وكبطل شريف ومجاهد عظيم عمد إلى الاختيار الثالث وهو مواصلة الجهاد حتى النصر أو الشهادة.
بعد أن اقتنعت إيطاليا أنها استخدمت كل الخيارات والإغراءات للمختار في مقابل أن يركن إليهم ولو قليلاً، ويأس جنرالات إيطاليا قبل سياسييها، أن لا مجال لاحتواء المختار، وأن الحل هو في القضاء عليه عسكرياً؛ لأن الرجل يأخذ مواقفه وقرارته من خلفية دينية تربى عليها منذ نعومة أظفاره في مدرسة إسلامية (المدرسة السنوسية) التي بثت فيه روح الإسلام وحب الجهاد وإباء الضيم، وعززت في روحه حب الجهاد والتضحية في سبيل الدين والوطن، فسجل أروع الملاحم في تاريخ المقاومة ضد الاستعمار، وقدم أروع الدروس في فن السياسة والمفاوضات، ومعاني الثبات في الاختيارات السياسية القائمة على تكوين شرعي في قلبه ثابت وفي عقله راسخ رسوخ الجبل الأخضر الأشم الذي اتخذه عريناً لمقاومته ومحضناً له ولرفاقه الأبطال الذين ضحوا لأجل حرية الوطن ووفاء لدينهم الذي يحضهم على المقاومة والجهاد؛ «إما نصر وإما شهادة»، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان لهم ما أرادوا رحمهم الله جميعاً.
قال عنه إدريس السنوسي، يرحمه الله، ملك ليبيا (1951 – 1969م): «لقد لازمني كل الملازمة مدة بقائي في برقة، وكانت لا تقل عن سبع سنوات متواليات، وسواء كنا في سفر أو في حضر ما رأيته يوماً من الأيام متكاسلاً عن واجبه ولا شاكياً من جوع ولا عطش ولا تعب ولا يائساً من خير، ولا جازعاً من شر».