ليست المرة الأولى التي يخرج فيها العالم منتفضاً للتضامن مع الفلسطينيين في غزة ودعماً لهم ورفضاً للاعتداءات الصهيونية بحقهم، فمشاهدة مثل هذه المظاهرات الحاشدة مما اعتدنا متابعته على شاشات التلفاز مع كل تصعيد في القطاع كما حدث في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021م وغيرها من الحروب التي راح ضحيتها الآلاف من الشهداء والجرحى.
هذا الحراك كان وما زال بالفعل يمثل ورقة ضغط كبيرة على صانع القرار الغربي الذي كان يظهر مساعيه لوقف آلة القتل والتدمير الصهيونية؛ إما محاولة لتبيض وجهه كونه أول من دعم إقامة دولة الاحتلال، وإما خشية أن تتفلت الأمور وتخرج عن السيطرة بعد أن يتصاعد الغضب العربي والإسلامي ويحدث ما لا يحمد عقباه.
وجه الاختلاف
التفاعل الشعبي الغربي مع مجريات الأحداث في غزة هذه المرة أثار الدهشة، وطرح العديد من علامات الاستفهام حول الدلالات التي يمكن الخروج بها من هذا التفاعل، ومناط اختلاف التظاهرات هذه المرة عن كل المرات السابقة.
والحقيقة أن ثمة اختلافاً كبيراً بين هذه المرة وما سبقها، وهو الاختلاف الذي لا يمكن أن نتجاوزه أو نغض الطرف عنه، فهو يحمل دلالة في غاية الأهمية والخطورة، فهذه المرة تعرى الوجه الحقيقي للنظام الغربي بعد أن تخلى عن كل القيم التي كان يتشدق بها ليلاً ونهاراً، التي كان يحرص -ولو ظاهرياً- على أن يبدو ملتزماً بها، فما فتئ طيلة عقود مضت يردد مع كل مرة يتصاعد فيها العدوان على الفلسطينيين الحديث عن حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي والإنساني وضرورة مراعاة القواعد الحاكمة للحرب، وهي الادعاءات التي كانت تنطلي وبكل أسف على الكثيرين منا.
هناك من كانوا لا يرون في الغرب إلا وجهه الجميل المضيء باعتباره صاحب القيم والمبادئ التي يمكن أن تكون مرجعية يستند إليها أصحاب الضمائر والمدافعون عن الحقوق المهدرة، لكن مع الحرب التي أعلنها الاحتلال عقب عملية «طوفان الأقصى» تبدلت الحال وسقطت كل هذه الادعاءات.
فلم يتردد الغرب بجملته الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي في أن يضربوا بكل قيمهم المزعومة عرض الحائط؛ فشجعوا الاحتلال منذ اللحظة الأولى على أن يفعل كل ما يريد بلا حساب أو عقاب، بل أعلنوا في صراحة متناهية بأنهم سيقدمون كل ما يلزم الاحتلال من دعم مادي وسياسي وعسكري حتى ينجز أهدافه المعلن منها وغير المعلن.
وهنا وربما للمرة الأولى يحدث الشقاق الكبير بين الأنظمة والشعوب التي انتفضت رافضة ما يقوم به الاحتلال، ومحتجة على ما حظي به من دعم من قبل الأنظمة، فبدا الأمر وكأن هذه الأنظمة في واد والشعوب في واد آخر؛ ما اضطر بعض الأنظمة الغربية إلى القفز فوق كل ما كانت تعتبره مفاخر حضارية غربية، فمنعت التظاهرات واعتقلت المحتجين وشرّعت القوانين المخزية مثل معاقبة المعادين للصهيونية؛ ليكون فضح الغرب واللعب على المكشوف واحدة من أهم إنجازات «طوفان الأقصى».
العالم ينتفض
الموقف الشعبي الغربي وحجم التظاهرات لم يفاجئ فقط المتابعين، بل فاجأ الأنظمة الغربية نفسها، فقد ظنت هذه الأنظمة أن المزاعم التي برروا بها دعمهم للاحتلال في سلوكه يمكن أن تسوّغ لهم هذا الدعم، فتحدثوا عن أن المقاومة الفلسطينية انتهكت القوانين الإنسانية، وتعاطت بوحشية مع الأطفال «الإسرائيليين»؛ حيث قاموا بذبح وحرق بعض هؤلاء الأطفال، فيما أهانوا وقتلوا النساء المدنيات، وغير ذلك من الجرائم، وهي الادعاءات التي سرعان ما تكشف زيفها لتسقط معها مقولات الغرب بحق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها، وتخرج التظاهرات في كل عاصمة ومدينة بأعداد غير مسبوقة.
ففي العاصمة البريطانية لندن، مثلاً، اندلعت وعلى مدار الأسابيع الماضية العديد من التظاهرات كان من بينها تظاهرة وصفت بأنها واحدة من أكبر التظاهرات في تاريخ بريطانيا كله، حيث قدر البعض أعداد المشاركين فيها بما يقترب من نصف المليون شخص، رفعوا خلالها أعلاماً فلسطينية ولافتات تطالب بوقف قصف غزة، بينما هتفوا «أوقفوا إطلاق النار الآن»، و«الحرية لفلسطين».
ولم يمنع المتظاهرين في بريطانيا من مواصلة احتجاجاتهم ما قامت بها الأجهزة الأمنية من اعتقال نحو مائة منهم خلال تظاهرات سابقة بتهم بينها تأييد حركة «حماس» المصنفة في بريطانيا على قوائم الإرهاب، وعلى خلفية جرائم كراهية؛ وذلك بهدف الحد من الاحتجاجات.
ولم يختلف الأمر كثيراً في العاصمة الأمريكية واشنطن؛ حيث خرجت التظاهرات الحاشدة التي شارك فيها مئات الآلاف ملوحين بالعلم الفلسطيني ومرددين هتافات: «بايدن، بايدن لا يمكنك الاختباء، لقد اشتركت في الإبادة الجماعية».
وكذلك كان الوضع في باريس وبرلين وسيدني وتورنتو ومالمو السويدية وفيينا وبروكسل وبريميرهافن وشتوتجارت جنوبي ألمانيا وأثينا وكوبنهاجن وروما ولودي الإيطاليتين وغيرها من العواصم والمدن الأفريقية والآسيوية والأمريكية الجنوبية.
وعي الشعوب
لا شك أن الدلالة الأكبر من كل ما تموج به عواصم ومدن دول العالم هو أن وعي الشعوب وصل إلى حالة من النضج الذي حد من الوقوع في شراك الخداع والأكاذيب الذي مورس بحقهم طيلة عقود طويلة.
وها هو الواقع ونضال الفلسطينيين وجهادهم الذي لم يتوقف للحظة واحدة يثبت أن مقولة «فلسطين أرض بلا شعب عادت لأصحابها اليهود» مجرد أسطورة مزيفة!
بل إن هذا النضال وحجم التضحيات التي قدمها الفلسطينيون ولا يزالوا كان بالنسبة للكثيرين مثار انبهار ودهشة دفع الكثيرين إلى أن يبحثوا في القرآن الكريم وقيم ومبادئ الدين الإسلامي ليكون ذلك إنجازاً من إنجازات «طوفان الأقصى» حيث فتح باباً جديداً للدعوة الإسلامية.
كذلك، فإن الأرجح أن العلاقة بين الشعوب والأنظمة الغربية ما بعد «طوفان الأقصى» والحرب على غزة لن تكون كما كانت عليه قبل ذلك، فعلى الجانب التقييمي أضحى دعم أي نظام للاحتلال في حربه على غزة صفحة سوداء في تاريخه سيكون لها أثرها المهم في تحديد مستقبله السياسي.
وعلى الجانب المستقبلي، فإن أي نظام قادم سيتحاشى بطبيعة الحال أن يقع مستقبلاً في فخ الاصطدام مع الرأي العام الرافض لسلوك الاحتلال؛ الأمر الذي ربما ينقل القضية الفلسطينية من حالة الجمود الذي تعانيه إلى حلحلة ستصب بكل تأكيد في صالح الفلسطينيين.