بعد أن دخل العدوان «الإسرائيلي» على غزة يومه الخمسين، يظهر أن الأهداف المعلنة للاحتلال ما زالت بعيدة المنال، سواء في سحق «حماس»، أم تحرير في أسراه، أم في فرض منظومة حكم بديلة، أم في أخذ ضمانات كاملة ألا يشكّل قطاع غزة تهديداً لأمنه في المستقبل.
وفي المقابل، فبالرغم من الأعداد الكبيرة من الشهداء والجرحى، والدمار الذي غطى القطاع؛ فإن «حماس» وقوى المقاومة مدعومة بالحاضنة الشعبية، وما زالت تبدي مقاومة باسلة، وتلحق خسائر كبيرة بقوات الاحتلال، بل وتمكنت من فرض شروطها في الهدنة الإنسانية وصفقة تبادل الأسرى الأولى، وهي بعد أن حققت انتصارها يوم 7 أكتوبر 2023م، ليست في وارد الاستسلام للشروط «الإسرائيلية»، التي ليس لها معنى سوى اجتثاث المقاومة في قطاع غزة، أو إفراغها من محتواها.
وبالتالي، يصبح الوضع أقرب إلى حالة كسر عظم وعض أصابع متبادل؛ وهذا يعني أن الحرب قد تطول، ولكن إلى أي مدى؟!
أبرز الحسابات «الإسرائيلية»:
بعد اليوم الخمسين من الحرب، ما زالت الحسابات «الإسرائيلية» محكومة بما يلي:
– استعادة نظرية الأمن والردع، واعتبار ذلك معركة «مصيرية» بالنسبة لدولة الاحتلال، حيث إن معركة «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، قد ضربتها في الصميم، وأسقطتها في أعين الكثيرين. إذ إن عدم استرجاع البيئة القوية الآمنة سيعني أن مشروع الدولة الصهيونية كملاذ آمن لليهود قد فقد معنى وجوده، وأنه أصبح بيئة طاردة، كما أن دور هذا الكيان كقلعة متقدمة للقوى العالمية الغربية وكشرطي للمنطقة سيفقد معناه أيضاً.
– إن الاحتلال «الإسرائيلي» مسكون برعب الفشل في عدوانه على غزة، ويرفض أن يُمنى بفشل إستراتيجي جديد، بعد أن صُدم بفشله الكبير في 7 أكتوبر؛ لأن ذلك قد يعني تجرؤ قوى المقاومة عليه، وفرض شروطها؛ مما قد يعني ضمناً بدء العد العكسي للاحتلال.
– ثمة شبه إجماع حكومي وشعبي «إسرائيلي» على الانتقام من «حماس» ومن القطاع، واسترداد الأسرى الصهاينة، ومنع قوى المقاومة في القطاع من تشكيل تهديد للاحتلال ولمستوطنات غلاف غزة؛ وإن كان هناك اختلاف في المدى الذي يمكن أن تستمر فيه الحرب، والشكل النهائي الذي يمكن قبوله.
– يستفيد الاحتلال من الاختلال الصارخ في ميزان القوى العسكرية، بتوفر أحدث الأسلحة الفتاكة لديه براً وبحراً وجوّاً، ليصبّ في غرور القوة عنده.
– يعاني «نتنياهو» وحزب الليكود من تراجع كبير في الشعبية، ويرى كثيرون أن معركة «طوفان الأقصى» أنهت الحياة السياسية لـ«نتنياهو»؛ وهو ما قد يدفعه للاستمرار في الحرب سعياً لتحقيق انتصار أو شبه انتصار يُرَمّم فيه صورته، محاولاً تفادي مصيره.
– يؤدي التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة دوراً كبيراً في التأثير على مدى إطالة الحرب، وفي رفع أو خفض الأهداف «الإسرائيلية»، هذا التحالف أعطى الاحتلال غطاءً دولياً لعدوانه وارتكاب مجازر بشعة أدت إلى 15 ألف شهيد بينهم أكثر من 6 آلاف طفل، و4 آلاف امرأة؛ ووفّر لها الدعم بالسلاح والمال، وأحضر قواه للمنطقة لإظهار الدعم ولمنع أي تدخل إقليمي، ومع ذلك؛ فإن هذا التحالف يشعر بضغط الوقت، مع استمرار المجازر، ومع تزايد الضغوط الشعبية في العالم الغربي، ومع استمرار الفشل «الإسرائيلي» في تحقيق منجزات حقيقية سوى الدمار وقتل المدنيين؛ ولذلك، ظهرت حالة التململ في أطرافه التي أخذت تسعى لأهداف أكثر واقعية.
– يستفيد الاحتلال من وجود بيئة عربية ضعيفة أو متواطئة، غير قادرة أو غير راغبة في تقديم دعم عسكري أو لوجيستي حقيقي للمقاومة يمكن أن يحدث فرقاً نوعياً لصالح المقاومة.
– إن تزايد الخسائر العسكرية والبشرية «الإسرائيلية» يشكّل عاملاً ضاغطاً على الاحتلال للانتهاء من الحرب.
– وكذلك، فإن تزايد الخسائر الاقتصادية وتكاليف الحرب، وتعطّل الإنتاج في الكثير من المرافق، وتعطّل السياحة، وفقدان الأمن، يشكّل عاملاً ضاغطاً آخر.
– فشل قوات الاحتلال في تحرير الأسرى، ونجاح «حماس» في فرض شروطها على الاحتلال.
حسابات «حماس» والمقاومة:
– تراهن المقاومة على إنجازها الكبير في 7 أكتوبر، وعلى جاهزيتها لمعركة طويلة الأمد، وعلى نوعية مقاتليها المستعدين للتضحية الذين يزيد عددهم على 60 ألفاً، وعلى حاضنتها الشعبية التي تلتف حولها.
– بالنسبة للمقاومة، فإن انتصار الاحتلال وسيطرته على القطاع وفرض شروطه سيعني اجتثاث المقاومة؛ وهو ما سيدفعها للقتال حتى النهاية، ولن تقبل أن يكون ثمن المنجزات والتضحيات أقل من مكاسب جديدة للمقاومة وللشعب الفلسطيني، وإذا كانت المقاومة قد أثبتت قوتها وكفاءتها وسيطرتها الميدانية خلال الأسابيع الماضية، وهي ما زالت قادرة على إيقاع خسائر كبيرة ومتزايدة في قوات الاحتلال، وكذلك ما زالت قادرة على إطلاق الصواريخ على معظم مناطق فلسطين المحتلة 1948م، فإن احتمال هزيمتها في المدى المنظور يصبح بعيداً جداً إن لم يكن مستحيلاً.
– بشكل عام، فإن البنية القيادية السياسية والعسكرية لـ«حماس» ما زالت قوية ومتماسكة، وتملك كفاءة عالية في السيطرة والتحكم في القطاع؛ وهو ما يعني فشلاً «إسرائيلياً» ذريعاً في ضربها.
– ما زالت المقاومة تملك ورقة الأسرى الصهاينة، ولم ينجح العدوان العسكري في تحرير أسير عسكري واحد، وهي ورقة قوية تُمكن «حماس» من لعبها في أي ترتيبات مستقبلية.
– ثمة تضحيات هائلة، خصوصاً على مستوى الحاضنة الشعبية، وعلى مستوى الدمار الهائل في المنازل والبنى التحتية والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس، غير أن هذه التضحيات لم تعد عنصر إخضاع وتطويع لدى الاحتلال، بل تحولت إلى عنصر يصبّ مزيداً من الوقود للمقاومة وللثورة واتساعها.
– إن تصاعد الدعم الشعبي العربي والإسلامي والدولي للمقاومة يصبّ في رفع معنوياتها، وفي الضغط على الأنظمة السياسية لوقف العدوان وإسناد المقاومة.
– إن استمرار العدوان واستمرار المجازر قد يدفع في النهاية إلى تصاعد حدة التوتر في المنطقة، وقد تخرج الحالة عن قواعد الاشتباك المستمرة منذ بداية الحرب في جنوب لبنان، وهو أمر يقلق القوى الإقليمية والدولية، من احتمالات تحولها إلى حرب إقليمية أو عالمية.
الخلاصة:
يظهر أن الاحتلال «الإسرائيلي» سيحاول بكل قوة انتزاع انتصار أو صورة انتصار، باعتبار ذلك ضرورة أساسية لوجوده واستقراره ولهيبته ومكانته في المنطقة، كما أن المقاومة ستحاول تعزيز انتصارها الذي حققته في 7 أكتوبر، ولن ترضى بأي تنازلات تؤدي لاجتثاثها أو تطويعها أو إفراغها من محتواها، خصوصاً بعد التضحيات العظيمة التي قدمتها هي وحاضنتها الشعبية.
ولذلك، فإن احتمال إطالة أمد العدوان ما يزال وارداً، غير أن قدرة المقاومة على الاستمرار في أدائها النوعي، والخسائر الكبيرة العسكرية والبشرية والاقتصادية المتوقعة في الجانب «الإسرائيلي»، وتصاعد الضغوط الشعبية العربية والدولية، واتساع دائرة الاشتباك في جنوب لبنان، سيجبر التحالف الدولي للاتجاه إلى حلول أكثر واقعية؛ كما سيجبر الاحتلال «الإسرائيلي» على التراجع عن معظم مطالبه، وقد يحتاج ذلك أسابيع، ولكن كلما ازدادت حدة المقاومة، ولم يبقَ للاحتلال أهداف حقيقية يضربها أو نقاط يضغط عليها، فإن المدة الزمنية ستقل أكثر فأكثر، وسيلجأ لحلول لحفظ ماء الوجه.
______________________________
المصدر: مركز «الزيتونة» للدراسات والاستشارات.