من لا يرى الله تعالى في غزة فهو الأعمى!
تأتي معركة «طوفان الأقصى» في اليوم الذي طغت فيه القوة المادية، اليوم الذي بلغ ذروته في التنافس بين الدول، في امتلاك أعتى وأحدث أسلحة الدمار والهلاك، اليوم الذي أصبح منطق حق القوة هو السائد، وهو المتحكم، وهو القائد، فقد اندحر في منظور عالم اليوم منطق قوة الحق، فلا وزن لحق مهما قامت الأدلة على سطوعه وبيانه، إذا كان مجرداً من القوة الحامية والمساندة.
منطق اليوم يؤكد أنك أنت صاحب الحق، وإن كانت كل الأدلة الظاهرة، والبارزة للعيان، دالة على إجرامك واحتلالك وفسادك وطغيانك، إن كنت تملك القوة، أو يساندك من يملك القوة، فقط القوة وحدها في عالم اليوم تقلب المقولة المتوارثة في موروثنا الشعبي كالمسلَّمات؛ أن «الشمس لا يغطيها الغربال»، ليصبح غربال اليوم بكل بساطة يغطي الشمس، لا بل يطمسها ويحجبها تماماً، ما دام غربال القوي المتجبر.
نعم، منطق اليوم، منطق البارجات العملاقة، التي تمخر عباب البحار والمحيطات، تحمل على ظهرها الموت الزؤام، منطق الطائرات الحربية النفاثة، التي تنشر الموت في كل مكان، منطق الدبابات الضخمة التي لا تقاوَم، منطق السلاح النووي المرعب، منطق الدمار والركام والقتل والتشريد.
حتى تضخم في حياة الناس وقلوبهم سلطان القوة المادية، وكادت تنسيهم أي سلطان غير سلطانها، بل أنستهم، وما عادوا يحسبون لسواها حساباً، نعم تضخم سلطان القوة المادية، حتى بات حديث الناس، والمسيطر على كل حساباتهم، والمؤطر لأفكارهم، والمثبط لعزائمهم، والمتسبب في استسلامهم وصمتهم، وساهم في ذلك إعلام المتخاذلين ونخبه من مفكرين وعلماء وفنانين ومشاهير ممن التحقوا مبكراً بكتائب المتخاذلين، الذين يؤطرون فقه الهزيمة والاستسلام.
في هذه الأجواء شديدة الحلكة والظلمة التي تعيشها أمتنا، جاءت «طوفان الأقصى» على قدر، تماماً كما جاءت طير الأبابيل التي تحمل حجارة من سجيل، في عام الفيل، الذي اعترف فيه العرب بعجزهم وضعفهم، أمام خطر الدمار الذي كان يهدد كعبتهم، فلم يكن أمامهم إلا أن ينسحبوا، ويخلو كعبتهم، لمصيرها، غير أن إرادة الله كانت هي الغالبة، ودحرت القوة المادية الغاشمة، لتكون درساً مهماً بين يدي بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي ولد في هذا العام، ففي هذا العام الذي أماط اللثام عن عجز العرب وضعفهم، وفي الوقت نفسه قدرته.
نعم، «طوفان الأقصى» هي الأبابيل التي حطمت أساطير القوة المادية، والحشود الطاغية، والأسلحة الفتاكة، وجددت في الأمة معاني الإيمان بالله تعالى، بل جددت معاني الإيمان في العالم كله، العالم الذي يقف مشدوهاً في قمة تعجبه من صبر الشعب، الذي يتعرض لأقذر الحروب، التي لا تتحكم لمبادئ، وكيف يجدد حمده لله على تضحياته الجسام، وأكدت أن القلة المؤمنة هي الأقوى؛ لأنها قلة مؤمنة، أخذت بأسباب النصر، من إعداد واستعداد، وبذل ما بوسعهم، وسخروا كل جهودهم وطاقاتهم، وما يقدرون عليه، كما أمرهم ربهم سبحانه وتعالى، لقد استنفدوا ما استطاعوا فعله، ولم يبق شيء يستطيعونه إلا فعلوه، ثم تركوا الأمر لصاحب الأمر، لسان حالهم يردد:
يا رب، لن ننتصر بهذا الذي أعددنا إن لم تكن معنا، فأنت ولينا ومولانا.
يا رب، نعلم علم اليقين أن النصر من عندك، إيماناً بما أخبرتنا في كتابك ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 10).
يا رب، طاش رمينا، إن لم تكن أنت الرامي، (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) (الأنفال: 17)، وهذا ما نسمعه من المجاهدين الأبطال، وهو يرمي رميته، يصدح بهذه الآية العظيمة، تأكيداً على تسليمهم المطلق لله تعالى.
يا رب، رغم قلتنا فإننا نؤمن بوعدك، فأنت القائل: (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) (الأنفال: 65).
ومن لا يرى الله تعالى في غزة فهو الأعمى!
أعتى قوة في العالم تساند أخطر جيوش المنطقة والعالم، وتحتشد في صفهما قوى أخرى عظمى، تمدهم بالعتاد والرجال، يجتمعون على بقعة صغيرة من الأرض طولها لا يتجاوز 41 كيلومتراً، بعرض يتراوح بين 6 إلى 12 كيلومتراً، وبمساحة إجمالية تبلغ 365 كيلومتراً مربعاً، يسكنها ما يزيد على مليوني إنسان.
بالحسابات المادية، وبمنطق القوة والواقع الأصل أن ينهي هذا الجمع الحاشد بجيوشه الجرارة وأسلحته الفتاكة، التي حاصرت القطاع من البر والبحر والجو، أن تنهي أمره خلال بضع ساعات، ولا أقول أياماً، لكن ما نراه ونشاهده قلب حساباتهم المادية، وأبطل منطقهم القائم على بطش القوة، وأكد أن ثمة قوانين أخرى، تحكم هذا الكون، غير قوانينكم الفاشية النازية، قوانين منطق حق القوة، قوانين البلطجة والعدوان، قوانين الغاب، قوانين السطو والاحتلال.
نعم، جاء طوفان المقاومة صاحب الحق والأرض عاتياً مدمراً، وعلى غير كل توقعاتهم، فإذا به يعصف بهم من كل جانب، تتقاذفهم أمواجه، وتثخن بهم أعاصيره، فتتعالى صرخاتهم تحت ضربات مجاهديه، هؤلاء العظماء بإيمانهم وتقواهم وجرأتهم، العظماء بما وقر في قلوبهم، العظماء ليس بزيهم، فقد رأيناهم في حفاة الأقدام، حاسري الرؤوس بلا خوذ، والصدور بلا ستر واقية من الرصاص، وبسلاح صنعوه بأيديهم بإمكاناتهم المتواضعة.
فمن لا يرى الله تعالى في غزة فهو الأعمى!
فمن أبطل مفعول قذائفهم وصواريخهم، فنزلت برداً وسلاماً على رؤوس المدنيين، لتكون ذخيرة وعتاداً للمجاهدين، يرجعونه مرة أخرى لعدوهم، فتثخن فيه القتل والجراح؟!
ومن قذف الرعب والخوف في قلوب العدو، الذي اهتزت أركانه، وفقد توازنه، واختل ميزانه، وأصيب كثير منهم بأمراض نفسية؟!
ومن قذف الطمأنينة والسكينة في قلوب المؤمنين، فلم يرهبهم قصف الطائرات، ولا هدير الدبابات، ولا ألم الفقد، وشدة المصاب، وبقوا في رسوخ الجبال يرددون: الحمد لله، لن نغادر أرضنا، خذ يا ربنا منا، من أرواحنا، من دمنا، من أبنائنا، من أهلنا، حتى ترضى؟!
ومن قذف القوة والشجاعة في قلوب المجاهدين، ليقف أحدهم شامخاً في وجه الدبابات والآليات والجنود المدججين، وجهاً لوجه، حتى يكمن تحتها، ويضع عبوة ناسفة، ينسفها بعد أن يغادرها سالماً بحفظ الله ورعايته؟!
من جعل هذا السلاح المصنوع محلياً، في ورش بدائية، شديد الفعالية والقوة، قادراً على تدمير آليات الدمار العملاقة، التي أنفق على تصنيعها الملايين، في أضخم مصانع السلاح العالمية، لتكون محصنة قوية جبارة، فإذا بها ريشة في مهب الطوفان؟!
من سدد الرمي، وجعله صائباً، يصل غايته ويحقق هدفه؟!
من الذي أمكن للمجاهدين، وسهل أمرهم، وسدد رميهم؟!
فمن لا يرى الله تعالى في غزة فهو الأعمى.. أعمى البصر والبصيرة!
ومن لا يقرأ آيات الله في غزة ويتدبرها بخشوع وخضوع فلا قلب له، ولا إيمان فيه!
والمؤمنون اليوم أولى الناس في تجديد معاني إيمانهم بالله تعالى، في ظلال الطوفان وآياته.