عندما وطئت قدم «المستدمر» الفرنسي بلاد الجزائر لم ينظر فقط للأرض والموقع والثروات، بل راح ينظر للدين والمعتقدات والأفكار والتقاليد، ورأى أنه من تمام التبعية له أن يعبث بمعتقدات الشعب، وبتركيبته الاجتماعية، وإفساد العلاقة بين الرجل والمرأة.
وقد وجّهوا سهامهم للمرأة حتى قال مسؤولوهم: لنملك النساء.. والباقي يتبعها بعد ذلك»(1).
وقد غاظهم وضع المرأة المحافظة على دينها وبيتها وأسرتها وتأييدها لزوجها في المقاومة وتنشئة جيل يحمل روح الكره والبغض لفرنسا، بل الحاملة للسلاح المقاتلة كتفًا بكتف مع المجاهدين، حتى قال الروائي أوكتاف دوبون: كل جهود التقارب والانصهار يمكنها أن تحدث، ولكنها في خطر الاضمحلال، بل التحطيم أمام أقدام هذه المرأة الحافظة الوفية للبيت العائلي، ولتقاليده، ويمكن القول، بأكثر عمومية: الحافظة المحافظة على العرق»(2).
وتغيُّر المرأة الجزائرية وقبولها للفكر الغربي -وخصوصًا الفرنسي- يستتبعه تغيُّر الرجل وتقبُّله وخضوعه للقيم الغربية، ومركزيته الحضارية، وتفوُّق الجنس الأبيض وعلوه على غيره من الأجناس، وأنه السيد والباقون هم العبيد الخاضعون لسلطانه.
وقد استخدم الاستعمار الفرنسي حالة المرأة الجزائرية لإثبات تفوقه الحضاري عبر المقارنة بين وضعها ووضع الفرنسيات آنذاك.
وكما تقول لورا نادر: «لطالما استخدم وضع المرأة في الخطابات الأيديولوجية للمقارنة بين الثقافات المختلفة ومهاجمة الآخر»(3).
وأضحت خطة المستعمر، حسب تصريحهم: «إذا أردنا ضرب المجتمع الجزائري في بنيته، في قدراته المقاومتية، توجب علينا امتلاك النساء، توجب علينا أن نبحث عنهن خلف الحجاب الذي يخفيهن، والمنازل التي يخفيهن الرجال فيها»(4).
ويتمثل النجاح الظاهري للمستدمر في نزع الحجاب عن المرأة المسلمة الجزائرية وسفورها، لذلك مثَّلت قضية الحجاب لهم هاجسًا كبيرًا، ورمزًا عظيمًا يجب تحطيمه؛ فهو عنوان الدين والهوية.
وكان الإصلاحيون على وعي تام بتلك الخطط الفرنسية الشيطانية؛ لذلك كانوا حائط الصد الأول لما كانت تطرحه القوى الاندماجية والتحريرية (الحداثية) المرتبطة وقتها بالمستعمر حول المرأة.
ولا يختلف الإسلاميون في الجزائر عن نظرائهم في باقي البلدان الإسلامية، من منطلقات اعتبار تحرير المرأة العربية المسلمة خدعة استعمارية ومكيدة صليبية، بغرض زعزعة نظام الأسرة، وإشاعة الفساد في الأرض، وقد كان لمدرسة التجديد التي أسسها جمال الدين الأفغاني، وقادها الشيخ محمد عبده، والطهطاوي، والكواكبي، أثرها البارز في نقل فكرها الإصلاحي في قضايا المرأة إلى الجزائر قبل الاستقلال(5).
ولقطع الطريق على خطة فرنسا، عمل رجال الإصلاح في جمعية العلماء المسلمين على الدعوة الصريحة إلى تعليم البنات جنبًا إلى جنب مع الذكور.
وكانت مواقف الشيخ البشير الإبراهيمي بين العلماء الأكثر وضوحًا في الدفاع المستميت عن الرؤية الإسلامية في قضايا المرأة، كما أنه لم يتطرق مفكر جزائري إلى قضية المرأة كما تطرق إليها وعالجها المفكر الكبير مالك بن نبي، وقد خصص لها في كتابه «شروط النهضة» حيزًا خاصًّا أسماه «مشكلة المرأة»، ووقف «موقفًا عقلانيًّا صارمًا، بين دعاة التحرر والتمييع التي يتزعمها الحداثيون، ودعاة التحجر والتزمت التي يميل إليها البعض الآخر باسم الإسلام»(6).
ولم تأخذ الحركة النسوية الجزائرية قوة الحركة النسوية في المشرق؛ فالقضية المركزية للأمة تمثلت في التحرر من الاستدمار الفرنسي، وطرد هذا المحتل البغيض، وقد أبطل على أبناء الحركة النسوية تحركهم أن العديد من النساء شاركن في الثورة مثل: جميلة بوحيرد، وباية حسين.. وغيرهما، واعتبرن أيقونات ومجاهدات في المقام الأول، وأصبحن معروفات عالميًّا، وقد حملن السلاح بجانب الرجال وتعرضن لنفس أنواع التنكيل التي تعرض لها رجالنا(7).
هذا إلى جانب الخلافات بين التيار النسوي الضعيف أصلاً في الجزائر، وقد فشلت النسويات والحقوقيات الجزائريات فشلاً ذريعًا في اللحاق بركب باقي الحركات في العالم أو حتى إحداث تغيير حقيقي أو جذب اهتمام الشعب لمطالباتهن.
والسبب الآخر هو حصر الحركة في طبقة معينة وفي العاصمة فقط؛ حيث لا تلتفت لأوضاع النساء العاديات في صراعاتهن اليومية بعيدًا عن الخطاب الأيديولوجي والنظري.
والجدير بالذكر أن أقصى عدد استطاعت النسويات حشده في مظاهرة لم يتعد أبدًا 300 امرأة(8)!
هذا إلى جانب وجود شبهة خيانة العهد الثوري وهدم الهوية الوطنية عبر تنفيذ أجندات غربية عامة وفرنسية، خاصة أن تمويل الجمعيات في غالبيته فرنسي.
ولعل هذا الاتهام بالذات لا يأتي من فراغ، بل من حادث تاريخي لا يزال حاضرًا في العقل الجمعي، وهو قيام مجموعة من النساء الجزائريات بحرق «الحايك» في ساحة النصر بالعاصمة عام 1958م تحت رعاية السلطات الفرنسية التي أقامت لهن احتفالاً بحضور «mme Massu» التي كانت ترأس جمعية خيرية لرعاية أطفال جزائريين يتامى وتلقينهم مبادئ الهوية الفرنسية.
هذه السيدة هي نفسها زوجة الجنرال «Massu» الذي كان يقود في التوقيت نفسه حربًا شعواء على المقاومة الجزائرية فيما يعرف بـ«معركة الجزائر».
بقي هذا المثال عالقًا في الأذهان وارتبطت أي مطالبات بخلع الغطاء التقليدي أو الحجاب به وبالتخوين المباشر(9).
وحيوية الشعب ووعيه بما يخطط للمرأة الجزائرية المسلمة ظهر في بعض الأحداث المهمة؛ إذ خرجت مسيرة مليونية ضخمة للنساء المسلمات، نظمتها رابطة الدعوة الإسلامية بقيادة الشيخ أحمد سحنون، في 21 ديسمبر 1989م، للدفاع عن قانون الأسرة الجزائري المستمد من الشريعة الإسلامية، في وجه مخططات تفكيك الأسرة الجزائرية(10).
هذا لا يعني النجاح الكامل في صد موجة التغريب والتحرير بالمفهوم الغربي، لكنه يعني أن المرأة الجزائرية لم تكن فريسة سهلة في يد الاستعمار الفرنسي الآثم.
_____________________
(1) المرأة الجزائرية بين ما كتبه الفرنسيون الكولونياليون وبعض الجزائريين وما أبرزه الواقع للدكتور ياسين سعادة، جامعة ابن خلدون، تيارت.
(2) المرجع السابق.
(3) عن الحركة النسوية في الجزائر جذورها خصوصيتها والوضع الحالي، نحو وعي نسوي.
(4) المرأة الجزائرية بين ما كتبه الفرنسيون الكولونياليون وبعض الجزائريين وما أبرزه الواقع للدكتور ياسين سعادة، جامعة ابن خلدون، تيارت.
(5) المرأة عند إسلاميي الجزائر.. ضحية الأدبيات القديمة (1 – 2) لحسان زهار، عربي 21.
(6) المرجع السابق.
(7) انظر: عن الحركة النسوية في الجزائر جذورها خصوصيتها والوضع الحالي، نحو وعي نسوي.
(8) المرجع السابق.
(9) المرجع السابق.
(10) المرأة عند إسلاميي الجزائر.. ضحية الأدبيات القديمة (1 – 2) لحسان زهار، عربي 21.