بعد مرور قرن كامل على سقوط آخر تجربة من تجارب الخلافة الإسلامية (العثمانية) أو الجامعة الإسلامية السياسية، وبعد أن استعرضنا، في المقال السابق، قراءة تأريخية حول القوى الأوروبية في زمن الخلافة العثمانية ودورها في تفتيت الوحدة الإسلامية، نرصد في هذا المقال مراجعــة وقراءة أبرز الآراء والصيغ التي قدمها لفيف من المنتمين إلى الفكر الإسلامي المعاصر بُعيد إسقاط الخلافة.
برجوعنا إلى أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر فيما يتعلق بمسألة صيغ الوحدة السياسية، وجدنا أن المنتمين إلى هذا الخطاب ينقسمون إلى ثلاث فرق أو توجهات، نستعرضها فيما يلي:
أصحاب هذا التوجه يرون أن الصيغة الواقعية للوحدة تتمثل في التكتلات الإقليمية أو اندماج نظامين
التوجه الأول: التكتلات الإقليمية:
يذهب أصحاب هذا التوجه إلى أن الوحدة السياسية إذا كانت تعني فيما تعنيه إلغاء الدولة القُطرية، والانصهار في وحدة إدارية كاملة، على النحو الذي كان أيام عهد الخلافة الإسلامية، فإنها أمر متعذر إلى أبعد الحدود، بالنظر إلى معطيات مختلفة، تتعلق برسوخ فكرة الدولة القُطرية، والنظرة إلى المسألة القومية وعلاقتها بالسيادة، وما إلى ذلك من معطيات؛ وبناء على ذلك، فإن الصيغة الواقعية للوحدة تتمثل في التكتلات الإقليمية، أو في اندماج نظامين سياسيين في صيغة نظام واحد، وهذه بعض أشهر نماذجها في هذا العصر؛ أي عقب سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية(1):
– تجربة الجمهورية العربية المتحدة: وهي محاولة إقليمية للوحدة بين كلّ من مصر وسورية، وقد تمت هذه الوحدة عام 1958م، تحت اسم «الجمهورية العربية المتحدة»، وأصبحت مصر تُسمى الإقليم الجنوبي، بينما باتت سورية تُنعت بالإقليم الشمالي، غير أن هذه الوحدة لم تصمد طويلاً، وتم الانفصال خلال سبتمبر 1961م.
– تجربة الاتحاد العربي: قامت هذه التجربة أيضاً بين كلّ من المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العراقية، عام 1958م، غير أن هذا الاتحاد لم يعمر سوى بضعة شهور، فقد جاء الانقلاب العسكري في العراق، في 14 يوليو من العام نفسه، فبادر إلى إلغاء الاتحاد، وأعلن عن توجه جديد للدولة.
– تجربة اتحاد الجمهوريات العربية: قامت هذه التجربة عام 1971م، بين كلّ من مصر وليبيا وسورية، والاتحاد صيغة من صيغ التعاون في بعض المجالات، ولم يلغِ الاتحاد سيادة الدول الثلاث، وكانت سورية الدولة الأكثر تمسكاً بهذا الاتحاد، حتى إنّ دستور عام 1972م نصَّ على ذلك صراحة بالقول: «إن الجمهورية العربية السورية عضو اتحاد الجمهوريات العربية، وجزء من الأمة العربية».
– تجربة الاتحاد العربي الأفريقي: جمعت هذه التجربة بين ليبيا والمملكة المغربية، وذلك عام 1984م، غير أن هذا الاتحاد سرعان ما داهمته عوامل الفشل، نتيجة الفوارق الكبيرة بين طبيعة النظامين السياسيين.
.. وأن الوحدة الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية إنما هي دليل عافية وصحة ورغبة في وحدة الأمة
– تجربة الوحدة بين تونس وليبيا: أعلن عن هذه التجربة في جزيرة جربة التونسية، خلال عام 1972م، وكانت هذه التجربة من أسرع التجارب الوحدوية سيراً إلى الفشل، فقد ولدت ضعيفة واهنة أو ميتة، وكانت عنواناً على الارتجال والاندفاع في اتخاذ القرارات السياسية العشوائية المتعجلة التي تتعلق بمصير الشعوب، والدليل على ذلك أن الاتحاد ألغي بعد ساعات قليلة على إمضاء بنوده.
– تجربة حلف سعد آباد بين كل من أفغانستان وإيران وتركيا والعراق: أعلن رسمياً عن قيام هذا الحلف، بقصر سعد آباد بطهران، في 8 يوليو 1937م، وتنص اتفاقية هذا الحلف على حماية الحدود المشتركة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتشاور المستمر في القضايا الدولية التي لها علاقة بالمصالح المشتركة لأقطار هذه الاتفاقية.
ويذهب بعض أنصار هذا التوجه إلى أن الوحدة الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية، إنما هي دليل عافية وصحة، ورغبة في وحدة الأمة، لكن وفق صيغة انسجام المناطق، حسب نوعية الأنظمة القائمة والتركيبة السكانية والمستوى الاقتصادي لسكان تلك المناطق.
وعن الوحدة التي جمعت بين كل من مصر والأردن والعراق واليمن تحت عنوان «مجلس التعاون العربي»، يقول مدير عام دائرة المؤسسات الدينية في العراق: «ومما شجع على قيام مجلس التعاون العربي التشابه والتجانس في كثير من الأمور السائدة في هذه الأقطار الأربعة، وقد اختمرت فكرة إنشائه في عقول قادته منذ فترة طويلة، إذ إنّ تشابه الأوضاع الداخلية يؤدي إلى تأسيس شكل من أشكال التعاون»(2).
الإسلاميون لم يعارضوا الوحدات الأقاليمية بل أيدوها وتحمسوا لها من منطلق إحياء الوحدة الإسلامية
التجاوب مع التوجه العام
إن الذي يظهر في الخطاب الفكري والسياسي الذي يستعلنه أصحاب هذا التوجه، يتمثل في التجاوب مع التوجه العام الذي انطبعت به جميع المشارب والتيارات في الأمة عامة والعرب خاصة، إزاء موضوع الوحدة، فقد مرّ على العرب حين من الدهر، كانت فيه الوحدة القاسم المشترك بين كل الفصائل والتوجهات الفكرية، ولم يكن حينها مهماً طرحُ بعض الأسئلة من قبيل: كيف تتحقق هذه الوحدة، ولا نوعيتها؟ ولم يكن من بين تلك التيارات من يعتبر فكرة الوحدة رومانسية سياسية، بل كان هناك تنافس بين العديد من الاتجاهات والمنازع والأيديولوجيات على تحقيق الوحدة، وكان كل اتجاه يرى نفسه الأكفأ والأقدر على جعل حلم العرب واقعاً ماثلاً.
وفي خضم سيطرة فكرة الوحدة على المرجعيات والمشارب الفكرية لمختلف التيارات، لم ير عدد من رموز المنتسبين إلى الخطاب الإسلامي أي غضاضة في تأييد بعض صور وأشكال الوحدة الجزئية، تلك التي جمعت بين قُطرين أو ثلاثة أو أكثر، وهي ما اصطلح عليه بـ«الوحدة الأقاليمية»، ومثال ذلك الشيخ يوسف القرضاوي، الذي نجد له نصاً يقول فيه: «فشلت وحدة مصر وسورية، وهي أعظم خطوة للوحدة تمت في عصرنا، استقبلها العرب في كل مكان بفرحة غامرة، وترحيب هائل، وتأييد منقطع النظير، وقد شهدتُ ذلك بنفسي، وسرعان ما تهدمت هذه القلعة، وتهاوى بنيانها، وانتهت من التاريخ، بسبب طغيان الحكم، وحكم الطغيان، والاستبداد الذي بغى على حقوق الإنسان، وحرية المواطنين، فلم يطق الشعب السوري أن يحيا في سجن بابه مغلق، ومفتاحه في القاهرة، وفي أول فرصة أعلن الانفصال»(3).
إنّ ما يمكن ملاحظته وتسجيله في هذا السياق أن المنتسبين إلى الخطاب الإسلامي المعاصر لم يعارضوا فكرة الوحدات الأقاليمية الثنائية أو الثلاثية أو غيرها، بل أيدوها وتحمسوا لها، وذلك من منطلق أنها إحياء للوحدة الإسلامية، ولو في بُعدها الاقتصادي أو الثقافي، لأنها خطوة في الاتجاه الصحيح، إذا تم تطويرها وتفعيلها قد تكون سبيلاً ممهداً لاستعادة الوحدة السياسية الشاملة للمسلمين.
__________________________________
(1) قائد محمد طربوش، التجارب الوحدوية في العالم العربي، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، ط1، 2004م، ص 266.
(2) عطاء الله محمد صالح الحديثي، مجلس التعاون العربي خطوة على طريق الوحدة، مجلة الرسالة الإسلامية، وزارة الأوقاف العراقية، العدد 226، شعبان 1409 هـ/ أبريل 1989م، ص 111.
(3) يوسف القرضاوي، أمتنا بين قرنين، دار الشروق، ط2، القاهرة 2002م، ص 150 – 151.