حين افتتح القرن العشرون كان علم السياسة الشرعية لم يزل على صورته الأولى التي وضعها المنظرون الأوائل الذين صاغوا أسس النظرية السياسية الإسلامية، ولم تزل مباحثه مبعثرة، فمبحث الخلافة -وهو أهم مباحثه- كان مندرجاً ضمن علم الكلام لا الفقه للرد على أصحاب الفرق والمذاهب الذين يعتقدون اعتقادات شاذة بشأنها، وليس ذلك إلا لعزوف الفقهاء عن التصنيف فيه؛ إما خشية التعرض لبطش السلطة الاستبدادية، أو تمسكاً بالورع والاحتياط حتى لا يُفضي التوسع في السياسة الشرعية إلى مزيد من المظالم، وأياً ما كانت الدواعي، فقد أسفرت عن حدوث قطيعة شبه كاملة بين النظرية السياسية الإسلامية والواقع السياسي.
غير أن ثمة عوامل مستجدة حتمت على العلماء إعادة النظر في السياسة الشرعية واستئناف مسيرة التصنيف المعطلة؛ ففي الدولة العثمانية كانت التنظيمات السياسية التي اقتبست عن أوروبا تمثل تحدياً حقيقياً، وكان على العلماء إثبات جدارة النظرية السياسية الإسلامية في مقابلة نظيرتها الغربية، ثم كان عليهم بعد سقوط الخلافة البرهنة على عدم حيازتها شروط الصحة وعدم تعارض الدولة القومية الوليدة مع الإسلام.
وأما في مصر، فكان تصاعد دعاوى الفصل بين السياسي والديني منذ العشرينيات وتوطد أركان الدولة المصرية حافزاً للعلماء على إحياء السياسة الشرعية وإدخال تعديلات وتطويرات مهمة عليها لتصبح مواءمة للعصر.
على ضوء هذه العوامل، استؤنفت حركة التصنيف في السياسة الشرعية، وبالإمكان الإشارة إلى بضعة أعمال صدرت خلال الفترة المبكرة في البلدين، ففي الدولة العثمانية صدر كتاب «السياسة الشرعية في حقوق الراعي وسعادة الرعية» لمؤلفه عبدالله جمال الدين أفندي، الذي صدر باللغة العثمانية أولاً، ثم نقل إلى اللغة العربية عام 1900م، وكتاب «الخلافة وسلطة الأمة» لعبدالغني سني، الصادر في أواخر عام 1923م.
وأما في مصر، فهناك كتاب عبدالوهاب خلاف «السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية»، وصدر بمصر عام 1930م، وكتاب «مذكرة في السياسة الشرعية» من إعداد الشيخ محمد رزق الزلباني، المدرس بكلية الشريعة، وصدر عام 1953م.
من إصلاح الخلافة إلى تجاوزها
الفكرة المركزية التي يدور حولها كتاب جمال أفندي هي أن اقتباس الدولة العثمانية للتنظيمات الغربية ليس فيه ما يضاد الشرع لسببين؛ الأول: أن التوسع في الأحكام السياسية أمر مشروع استناداً إلى القواعد الفقهية التي تجوز اختلاف الأحكام تختلف باختلاف الأزمان، ومن مشروعية العمل بالمصلحة المرسلة، والثاني: كون هذه التنظيمات لا تنافي الأصول والمبادئ الشرعية، فقد نقل الأوروبيون عن أهل الأندلس «أحكاماً شرعية إسلامية أصولاً وقواعد وبسطوها بسطاً يناسبهم ويفيدهم.. حتى ظهر عندهم علم حقوق الناس أخذ أكثره من أحكام الشرع الإسلامي وقواعده، فشابه الحرية الإسلامية».
ورغم هذا الربط التعسفي بين تنظيمات أوروبا والإسلام، ظل هناك سؤالان وجب على عبدالرحمن أفندي الإجابة عنهما؛ الأول: يتعلق بتفسير التدني، أو بعبارة أخرى لماذا أصبحت الدول الإسلامية في هذا الضعف المستمر والتقهقر الهائل، رغم أن السياسة الشرعية تكفل حسن إدارة الممالك؟ وهو ما أرجعه إلى عوامل داخلية كتشرذم المسلمين وشيوع ثقافة التوكل بينهما، وعوامل خارجية كتكالب الدول الأوروبية على البلدان الإسلامية.
والثاني: يتعلق بكيفية الإصلاح والتدابير اللازمة لإصلاح الحكومات الإسلامية، وهو يفترض أن السبيل لذلك يكون بتقوية جامعة الدين بين الشعوب الخاضعة للخلافة الإسلامية، ونهوض الدول الإسلامية المستقلة؛ كالدولة العثمانية والدولة الإيرانية، بإصلاح أحوالها الداخلية على هدي الشرع المحمدي، ولا يكون ذلك إلا بــ«تدوين مجلة كاملة في قواعد السياسة الشرعية بمراجعة الكتب المعتبرة وتطبيق الأحوال والأمور على مقتضيات ظروف الزمان والمكان».
وما ذهب إليه أفندي يختلف عما ذهب إليه السني في كتابه «الخلافة وسلطة الأمة» الذي صدر بعد مضي ربع قرن تقريباً، وفيه ذهب إلى أن الخلافة «من المسائل الفرعية والفقهية، ولا علاقة لها بالاعتقاد»، بل مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية؛ لذلك لا توجد تفاصيل في شأنها، فلم يرد في القرآن أو الأحاديث النبوية بيان صريح عن كيفية نصب الخليفة وشروط الخلافة، وهل يجب على الأمة الإسلامية في كل الأزمان والأحوال نصب خليفة أم لا؛ وهو ما يعني عدم ضرورة إقامة الخلافة وإمكانية القبول الشرعي بالدولة القومية الحديثة.
دمج الدولة القومية في بنية السياسة الشرعية
أما كتاب عبدالوهاب خلاف فقد صدر عن المطبعة السلفية بالقاهرة عام 1930م، وهو يجمل الدواعي التي حملته على الاهتمام بالسياسة الشرعية والتدوين فيها، بأنه عهد إليه عام 1923م تدريس مادة جديدة بمدرسة القضاء الشرعي هي السياسة الشرعية -التي استحدثت على ضوء اهتمام الملك فؤاد بمسألة الخلافة الإسلامية- و«لقد بدأنا تدريس هذا العلم الناشئ وليس بين أيدينا سوى منهج دروسه الذي ينتظم عدة بحوث في مختلف الشؤون، ولذا وجب عليه إيجاد وحدة تنتظم هذه الموضوعات لنتعرف الرسم الذي يحد علم السياسة الشرعية، ونميز موضوع البحث فيه، ونقف على الغاية التي يوصل إليها».
استناداً إلى ذلك، وصف خلاف أنه أول من وضع الصياغات الحديثة لعلم السياسة الشرعية، وهذا الوصف لا يجانبه الصواب، فقد قام بإعادة تعريف المفاهيم السياسية الإسلامية وعلى رأسها السياسة الشرعية، ووضع خارطة بالموضوعات التي تندرج تحتها، وقام بدراسة المسائل ذات الحساسية وإعادة تأويلها على نحو جديد، مثل: علاقة دار الإسلام بدار الحرب، أو علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأجنبية، ووضعية أهل الذمة في الدولة الإسلامية الحديثة، وذهب في ذلك إلى تأويلات غير مسبوقة حين اعتبر أن إلزامهم بزي خاص ليس من الإسلام، كما بحث مسألة حرية الاعتقاد، وذهب إلى أن الإسلام أقر هذه الحرية وترك لكل فرد أن يكون عقيدته بناء على ما وصل إليه عقله.
لكن تلك التأويلات لم تمس مسألة الخلافة، حيث ظل مؤمناً بوجوبها شرعاً، ودافع عن وجودها، استناداً إلى 3 حجج، هي: إجماع الصحابة على نصب خليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما هو واجب كحماية الثغور وإقامة الحدود لا يتم إلا به، وأن فيه دفع للمضار وجلب للمصالح.
لكنه، في المقابل، كان حريصاً على نزع أي قداسة دينية لهذا المنصب ولمن يتولاه؛ «فليس عموم ولاية الخليفة وشمولها للشؤون الدينية بجاعل الخليفة ذا صلة دينية أو مستمداً سلطانه من قوة غيبية، وما هو إلا فرد من المسلمين وثقوا بكفايته لحراسة الدين وسياسة الدنيا».
ورغم أن الشيخ خلاف حاول نزع القداسة المبالغ فيها حول الخلافة وإعادة صياغة العلاقة بين المواطنين والخليفة، فإنه لم يصل إلى حد اقتراح صيغة حديثة لها، كما فعل السنهوري، أو استبعادها تماماً، والحديث عن «الحكومة الدستورية الشرعية» كما فعل الشيخ رزق الزلباني في منتصف القرن العشرين حين درّس مادة السياسة الشرعية لطلاب الأزهر ولم يأت على ذكر الخلافة، مسوغاً هذا الاستبعاد بأن «السياسة الشرعية مبنية على رعاية المصلحة، فهي بالضرورة لا تلتزم طريقاً معيناً، ولا تقف عند حدود ثابتة، بل يجب أن تتغير كلما تغيرت المصلحة بحسب الأزمنة أو الأمكنة»؛ الأمر الذي يكشف عن مدى التطور الذي لحق بعلم السياسة الشرعية في بضعة عقود.