بينما تمر أيام شهر العبادة والتقرب إلى الله والصيام والقيام والصدقة والزكاة والدعاء، هل سنحصل على مقصد عظيم من العبادة، هل سنحصد لحظة إخلاص تقلب الموجة وتغير وجه الحياة وتفتح بها القلوب ونفوز بالرضوان.
لحظات الإخلاص هي التي تجعل العمل الصغير يزن جبلاً، بل جبالاً كما قال عبدالله ابن المبارك: «ورب عمل كثير تصغره النية» (كتاب الجهاد، 1/ 37).
يقول د. يوسف القرضاوي، في كتابه «الإخلاص»: لا تحسبن، يا أخي المسلم، أن التحقق بالإخلاص أمر يسير، وأنه في متناول اليد لكل من أراد، وأن تحصيله ممكن بأدنى جهد وبلا معاناة ولا مجاهدة، فهذا بعيد عن الحقيقة.
والواقع أن تحقيق الإخلاص ليس بالأمر الهين، كما يظن بعض الذين يتعاملون مع السطوح لا مع الأعماق، ومع القشور لا مع اللباب.
فقد أكد العارفون من سالكي الطريق إلى الله تعالى صعوبة الإخلاص، ومشقته على أنفس الخلق، إلا على من يسّره الله تعالى عليه، وصدق الله الكريم: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم» (رواه الترمذي).
وكان عليّ بن الحسين زين العابدين يحمل الصدقات والطعام ليلاً على ظهره، ويوصل ذلك إلى بيوت الأرامل والفقراء في المدينة، ولا يعلمون من وضعها، فلما مات وجدوا على ظهره آثاراً من السواد فعلموا أمره وكشفوا سره.
مسح اسم الملك عن المسجد!
يُحكى أن أميراً أراد أن يبني مسجداً في مدينته وأمر ألا يشاركه أحد في بناء المسجد؛ وتم البناء ووضع اسم الأمير عليه، وفي ليلة من الليالي رأى الأمير في منامه كأن ملكاً من الملائكة نزل من السماء فمسح اسم الملك عن المسجد وكتب اسم امرأة، فلما استيقظ الملك من النوم استيقظ مفزوعاً وأرسل جنوده ينظرون هل اسمه ما زال على المسجد فذهبوا ورجعوا بنعم.
وتكررت الحادثة يومين متتالين، فأرسل جنوده للمرأة التي رأى اسمها على المسجد فأمر بإحضارها وسألها: هل ساعدت في بناء المسجد؟
قالت: والله ما فعلت ولا عصيت أمرك، إلا أنني مررت ذات يوم من جانب المسجد فإذا أحد الدواب التي تحمل أدوات بناء المسجد وهو مربوط بحبل إلى وتد في الأرض يريد أن يشرب من سطل به ماء فلا يستطيع بسبب الحبل، فقربت سطل الماء إليه فشرب من الماء.
فقال الملك: عملت هذا لوجه الله فقبل الله منك، وأنا عملت عملي ليقال: مسجد الملك فلم يقبل الله مني، فأمر الملك أن يكتب اسم المرأة على المسجد.
من ثمرات هذه اللحظة
ولهذه اللحظة ثمرات كثيرة وفوائد جمة، نذكر منها:
– قبول العمل ورفعته: قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ لا يقبلُ من العملِ إلَّا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهُه» (رواه النسائي).
– تفريج الكرب: ألا تذكر الثلاثة الذين دخلوا في الغار وأغلقت عليهم الصخرة؟! اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فكان الفرج بإخلاصهم.
– الحصول على الأجر وإن حال حائل عن تمام العمل: وهناك نموذج بيّن للفكرة، قال تعالى: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة: 92)، فكان إخلاصهم عظيماً ففاضت عيونهم حزناً دليلاً على الصدق الموجود في نفوسهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر» (رواه البخاري).
– الانتصار على الشيطان والنجاة من كيده: قال الله تعالى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {39} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر).