إن الله تبارك وتعالى أوصى عباده بتقواه التي يحصِّلون بها السعادة والطمأنينة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وينالون رضاه والفوز بدار كرامته والسلامة من ناره وعذابه، وهي وصيته سبحانه للأولين والآخرين من خلقه قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (النساء: 131).
وتقوى الله هي طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومعنى التقوى، أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافُهُ وقاية، وتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه، وذلك لا يكون إلا بفعل طاعته واجتناب معصيته.
والله عز وجل تارة يأمر بتقواه، فهو الذي يُخشى ويُرجى، وكل خيرٍ يحصل للعباد منه سبحانه، وتارة يأمر باتقاء النار التي هي مآل من خالف تقواه واتبع هواه كما قال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (البقرة: 24).
ولقد اعتنى السلف الصالح بتحقيق التقوى في نفوسهم وتوضيح معناها ومبناها ولم يزالوا يتواصون بها؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الْمُتَّقَونَ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران: 102) قال: «أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ»، وقال طلق بن حبيب: «التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تَرْجُو ثَوَابَ اللهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تَخَافُ عِقَابَ الله».
وقد شرع سبحانه لعباده صيام شهر رمضان المبارك لتحقيق تقواه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)؛ ما يعني أن الصوم يوصل إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات، فما شُرع صيام هذا الشهر الكريم إلا لتحقيق التقوى، بل إنه من أكثر ما يعين على تحقيقها، قال الإمام سعدي رحمه الله في تفسيره لقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): «فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى، أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه، متقرباً بذلك إلى الله راجياً بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ويدرِّب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه، وأن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساةَ الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى».
ووجوه التقوى في الصوم ليست مقتصرة على الكفّ عن الطعام والشراب فقط، بل لا بد أن يرافق ذلك حسن المعاملة والخلق في التعامل مع الآخرين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ»، ومعنى الصيام «جُنة»؛ أي وقاية للعبد من النار، ووقاية له عن السيئات، وصبر على الأذى، وترويض للنفس على كتم الغيظ والتغلب على الغضب، فكلما كانت الأخلاق حسنة كان الصيام أتم وأكمل، فإن الرفث والفسوق والسباب والظلم مما يجرح الصيام، وقد يبطل أجره.
ولذلك، فإن الصيام والقيام وسائر العبادات في شهر مضان هي دلالة وبرهان على تقوى العبد، فالصيام والتقوى صنوان لا ينفصلان، فلا صيام بدون تقوى ولا تقوى بدون صيام، فطوبى للمتقين الصائمين في هذا الشهر الفضيل.