وقعت غزوة «بدر» يوم الجمعة 17 رمضان 2هـ/ 15 مارس 624م، ويوم «بدر» أعز الله به المسلمين بالنصر على المشركين الذين كانوا يمثلون التحدي الأكبر للدعوة الإسلامية في ذلك الوقت.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم 8 رمضان 2هـ في 314 رجلًا لمصادرة قافلة قريش تعويضًا لهم عن أموال المهاجرين التي صادرتها قريش في مكة، وتهديدًا لمكانتها السياسية بين القبائل، ولما علم أبو سفيان بخروج المسلمين إليه أرسل إلى قريش يستغيثهم لإنقاذ القافلة؛ فخرجت قريش بكل قوتها؛ ولما غيّر أبو سفيان طريقه أرسل إليهم يخبرهم بنجاة القافلة، ويطلب منهم العودة؛ فرفض أبو جهل العودة قبل أن يبلغوا بدرًا، وتسمع بهم العرب، فلا يزالون يهابونهم، ولم يدرِ أن رسول الله وأصحابه عند بدر، ولم يدرِ المسلمون كذلك أن قريشًا خلف بدر التي وصفها سبحانه بقوله: (إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ) (الأنفال: 42).
وقد تضافرت عدة عوامل أدت إلى النصر في غزوة «بدر»، وهي تثبيت الله للمؤمنين؛ فأنزل السكينة والطمأنينة عليهم، وأيدهم بالملائكة مما كان له أثر كبير في بث روح الأمن والطمأنينة التي أصابتهم عندما رأوا قوة المشركين تفوقهم؛ فيقوله سبحانه: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ) (الأنفال: 6)، ويقول سبحانه: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9).
وكانت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم القيادية لها أثر كبير في النصر، فاتجه إلى الاستعانة بالله؛ ثم شرع في الأخذ بالأسباب المادية في حسن التخطيط للمعركة مما كان له أثر كبير في المعركة جعلت المستشرقين المعروفين بتعصبهم يشيدون بعبقريته العسكرية في غزوة «بدر»؛ فيقول مونتجومري وات(1): «وقد عادت عليهم قيادته بتفوق تكتيكي».
وكان للأنصار؛ الأوس والخزرج، خبرة كبيرة بالحروب والتخطيط للقتال اكتسبوها من خلال المعارك التي خاضوها قبل الإسلام خلافًا للمهاجرين، وقد قدّم الأنصار الأسباب الداعمة للنصر يوم «بدر»، الذي يتمثل في يلي:
– موافقة الأنصار على خوض الحرب خارج المدينة:
كانت مبايعة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم على حمايته والدفاع عنه في المدينة، وليس خارجها، فهم يوم «بدر» في حِلِّ من القتال معه، وهم أكثر جيشه حيث يمثلون أكثر من 70% من قوة الجيش الذي يبلغ عدده 314 رجلاً، ولم يتوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالاً، وزاد موقف المسلمين حرجًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب إلى قريش يطالبهم بالانصراف فأبوا إلا الحرب(2).
ومن هنا؛ فالحرب واقعة لا محالة؛ فاتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشاور مع قادة جيشه، وهو ما يطلق عليه اليوم «مجلس الحرب»، فتكلم أبو بكر، وعمر، والمقداد بن عمرو من المهاجرين، فلم يحفل كثيرًا برأيهم؛ ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليَّ أيها الناس»؛ فوقف سعد بن معاذ، زعيم الأنصار، وقال: كأنَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل»!
قال سعد: قد آمنَّا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السَّمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا، إنا لصبر في الحرب صدقٌ عند اللقاء، ولعلَّ الله يُريك منَّا ما تَقَرُّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله؛ فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول النووي: «وفيه استشارة الأصحاب وأهل الرأي والخبرة»(3).
– حسن رأي الأنصار في اختيار موقع جيش المسلمين:
اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اتخاذ موقع الجيش أمام بئر بدر، فأشار عليه الحُباب بن المُنذر الأنصاريّ أن ينزل أدنى ماء بدر، ويردم ما سواه؛ ويصبح الماء بحوزتهم؛ فيشربون ولا تشرب قريش؛ فيؤثر العطش فيهم ويضعف قدرتهم على القتال، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي»(4).
– اختيار الأنصار موقع متميز للقيادة:
يتحدد مكان القائد بين جنوده وفقاً لخطته، ففي الخطة الدفاعية يكون موقع القائد متأخرًا، وفي الحروب الهجومية يكون في مكان متقدم، وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في «بدر» خطة دفاعية، ولذا أشار عليه سعد بن معاذ أن يبنوا له عريشًا (خيمة) من جريد يستظل به في مكان مرتفع يتخذه مقرًا لقيادته يعطيه رؤية كاشفة لميدان المعركة ويوجّه من خلاله جنوده، فإذا انتصر المسلمون فخير، وإن كانت الأخرى يستطع أن يلحق بمن بقي من المسلمين في المدينة يستنصر بهم؛ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، وقام على حراسته سعد بن معاذ وبعض الأنصار؛ فكان يتشاور فيه مع أبي بكر الذي يبلغ أوامره إلى جنوده(5).
وقد كان موقع جيش المسلمين وفقاً لطبيعة المكان واتجاه الشمس في يوم شديد الحر متميزاً وفي نقاط مرتفعة كاشفة لأرض المعركة؛ فالقادة العسكريون حديثًا يحرصون على امتلاك وسائل التفوق والسيطرة على أرض المعركة وجوها؛ وقد أشار إلى ذلك الطبري في تفسيره بقوله: «كان صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، والمشركون أسفلَه»(6).
وكان لحسن آراء الأنصار تلك أثر كبير في إضعاف قوة المشركين، فقد كانت مفاجأة قريش كبيرة عندما بلغوا بدرًا، والمسلمون أمامهم في مواقعهم التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعناية، وهم في موضع ليس لهم فيه اختيار، وأصبح الماء بحوزته وهو المتحكم فيه دونهم، فأثّر العطش فيهم وأضعف قدرتهم على القتال، وما أدراك ما أثر العطش في الصحراء في يوم حار كيوم «بدر»!
ويثني المستشرق جويل هيوارد(7) على احترامه صلى الله عليه وسلم لآراء أصحابه، وإيمانه بأنهم يمتلكـون أفـكارًا ورؤى قـد تسـاعده في اتخـاذ قـرارات أفضل مـن رأيه لو اتخذه منفردًا، وهو بذلك يعزز في أنفسهم الشعور بالثقة والكرامة بحسن الاستماع لهم وتنفيذ مشورتهم، وليس أمراً شكلياً، وأوجد بيئة مفتوحة وآمنة يستطيع فيها الناس مناقشته ومخالفته دون أن ينظـر إليهم نظرة انتقاص، فقد كان صانع قرار شامل واستشارياً، وكانت أفكاره الخاصة قابلة للمناقشـة والتحسين.
– ثبات الأنصار في المعركة:
نظم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في صفوف طولية حتى لا يظهروا أمام عدوهم قلة، وتفادي النظم القتالية الأخرى التي تحتاج إلى أعداد كبيرة، وأمرهم ألا يهجموا حتى يأمرهم، وامتثل المسلمون؛ المهاجرون والأنصار الأمر.
فلما بدأت المعركة بالمبارزة على عادة العرب، وقُتل من قريش عتبة بن ربيعة، وابنه الوليد، وأخوه شيبة، وهجم المشركون فاقتتلا الفريقان قتالاً عظيماً، واستطاعوا منع اختراق العدو لصفوفهم، فأمر المسلمين أن يشدوا عليهم، فكانت هزيمة قريش، ومَنَّ الله على المسلمين بالنصر؛ فقتل منهم 70 وأسر مثلهم، وقُتل من المسلمين 14(8)، وفي ذلك يقول سبحانه: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) (آل عمران: 123).
كانت معركة «بدر» مهمة في مسيرة الدعوة الإسلامية؛ فحقق المسلمون فيها أهدافهم كاملة، وتم فرض حصار اقتصادي على قريش، وشعرت القبائل بقوة المسلمين، وفي الجانب الآخر فقدت قريش خيار قادتها، وكسرت شوكتها بين القبائل.
_________________________
(1) محمد في المدينة، تعريب: شعبان بركات، المكتبة العصرية، بيروت، دون تاريخ، ص21.
(2) البلاذري: أنساب الأشراف، تحقيق: محمد حميد الله، دار المعارف، القاهرة، 1959، (1/ 350).
(3) النووي: صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة بدر (1779).
(4) البلاذري: أنساب الأشراف (1/ 350).
(5) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عبدالله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417هـ/ 1987، (2/ 20).
(6) جامع البيان في تأويل آي القرآن (13/ 564)، رواية (16140).
(7) قيادة محمد صلى الله عليه وسلم إعادة بناء تاريخي، ترجمة: منال دعنه، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2024، ص27.
(8) الكامل في التاريخ (2/ 18-23).