إن حضارة الأمم تُقاس بما لديها من فائض قيمي وتجربة إنسانية، وبما تحققه من نهضة مادية وعلمية مرتبطة بتلك القيمة، ولا توجد حضارة بلا قيم، وإن الحضارات القديمة كلها أياً كان دينها كان عمادها القيم الأخلاقية، والقوة المادية والعلمية، فإذا غاب أحد هذه المكونات فما كان لتلك الحضارة أن تقوم بداية، وإن كانت قائمة فأصابها عطب في تلك المقومات فإنها سرعان ما تسقط وتنهار، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117).
ويعود بنا ذلك إلى نقطة فاصلة في عصرنا الحاضر، وسؤال جوهري، وهو هل يُعد النظام العالمي القائم الآن صاحب حضارة؟ وهل يعد نظاماً حضارياً حقاً، وما دلائل ذلك، وما الفرق بينه وبين المشروع الإسلامي في منطلقاته وثوابته ومقاصده؟
النظام الذي تعتمد منهجياته على التخلص من القيم الإنسانية والأخلاقية لا يُعد متحضراً مهما ملك من قوة
بداية، نؤكد أن ما نراه الآن فيما يسمى بالحضارة الغربية كذبة كبرى لا علاقة لها بالحضارة أو حتى بالإنسانية، ناهيك أن يُسمى حضارة، أو تَمدُّناً وتحضُّراً، نعم إنها طفرة في الإمكانات، لكن صاحبها في الوقت نفسه تدهور في القيم والأخلاق.
والنظام الذي تعتمد منهجياته على التخلص من القيم الإنسانية والأخلاقية، والانحدار بالبشرية إلى مستوى حيواني، بل ربما أقل من الحيوانات في كثير من السلوكيات، لا يُعد مجتمعاً متحضراً مهما ملك من قوة، أو جمع من ثروة، فحينما يفقد الإنسان فيه قيمته لمصلحة الكسب الأوفر، ويصبح سلعة تُقيم مكانته في سوقها بما يملك من أموال، أو بما يُحقق من عوائد لنفسه أو لغيره، فلا تحدثني عن حضارة!
أي حضارة تلك التي جعلت الإنسان يدور كحمار الرحى ليل نهار في منظومة الرأسمالية دون توقف لمجرد أن يعيش؟! بل ويستعبده أدعياء التحضر تحت مسمى الاستعمار، ويجردونه من حيائه وإنسانيته ومجتمعه تحت مسمى الحرية والتمدن!
أي حضارة تلك التي تسمح لثلة من المشردين الدمويين أن يتسلطوا على شعب آمن في فلسطين المباركة؟!
إن النظام العالمي الذي بذل جهوداً مضنية، وأنفق أموالاً طائلة، كانت كفيلة بإسعاد البشرية كلها، في صناعة القنابل النووية، والأسلحة الكيماوية، والأوبئة البيولوجية، وكل ما يُهلك الإنسانية، والذي سمح كذلك لثلة ضئيلة أن تعيش في ثراء فاحش على أنقاض الأمم والشعوب، لهو مجتمع حيواني، لا علاقة له بالحضارة أو القيم أو الإنسانية، بل إن ما اقترفه من جرائم يؤهله لئن يكون أسوأ من حيوانات الغابة، وذئاب الصحراء، والكلاب الضالة!
أي حضارة تلك التي أبادت الملايين من الهنود الحمر، وهجرتهم من وطنهم لتقيم على أنقاضه أمريكا رمز الحرية والسلام!
أي حضارة تلك التي تتسلط على البشرية فتقتل في حروبها العالمية المتتابعة أكثر من 50 مليون إنسان على لا شيء سوى التسلط والقهر والبغي!
ثم تنتقل ببغيها وسطوتها وتسلطها إلى باقي دول العالم فتبيد الملايين في ليبيا على يد الإيطاليين، وتسفك دماء الملايين في الجزائر والمغرب على يد الفرنسيين، وأمثالهم في مصر على يد البريطانيين، وتدهس خيول الفرنسيين الأزهر ويقتلون شيوخه!
ثم يستمر النظام العالمي بالإفك والضلال في منهجيته الدموية اللاإنسانية، فيقتلون الملايين في العراق وأفغانستان، ويهدمون ويشوهون معالم حضارتهما العريقة، وقبلها يذبحون المسلمين في البوسنة والهرسك على مرأى ومسمع الجميع!
أي حضارة تلك التي تشرع العلاقات الجنسية الشاذة وتسن لها القوانين وتجتهد في تحسين صورتها؟!
أي حضارة تلك التي تسمح لثلة من المشردين، الدمويين المعوقين ذهنياً، والملوثين فكرياً، والمشوهين إنسانياً، أن يتسلطوا على شعب آمن في فلسطين، ليحتلوا أرضه، ويشردوا أهله، ويغتصبوا مقدساته، ويقوموا بحرب إبادة جماعية، تشارك فيها تلك الدول التي ما فتئت ليل نهار تحدث الناس عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك على مرأى ومسمع من كوكب الأرض كله؟!
أي حضارة تلك التي تشرع العلاقات الجنسية الشاذة، وتقيم لها المحافل، وتسن لها القوانين، وتجتهد في تحسين صورتها، وتغيير مسمياتها، وتفتح لها الأندية، وترفع لها الأعلام، وتعقد لها القداس في الكنائس؟! بل وتقوم المنظمات الدولية بسن القوانين لحماية ونشر الفحش، وإفساد الفطرة الإنسانية، وتحول ذلك الانحدار إلى معيار للتقدم من وجهة نظرها، بل أضحت توالي وتعادي عليه! إنها ليست حضارة، بل هي محرقة للإنسانية، وانحدار به من منزلة التكريم والسيادة في الأرض إلى مرتبة الحيوانية والامتهان!
بل إن تلك الحالة التي وصل إليها العالم الإسلامي من تخلف علمي، وتراجع حضاري، لم تكن لتحدث لولا أن الغرب صنع له أذرعاً نكدة، تسلطت على مقدرات الأمة فأفسدتها، وعلى قيمها فشوهتها، وعلى ثرواتها فأهدرتها.
من الذي يقف وراء نشر المخدرات والمُسْكرات، وإشاعة الفواحش والمنكرات، والعمل ليل نهار لتدمير البنية القيمية للإنسان في العالم بأسره!
مرجعية المشروع الإسلامي ربانية في تشريعها رحيمة في وسائلها حكيمة في أساليبها أخلاقية في مقاصدها
أما المشروع الإسلامي، فنجد أنه قد تأسس بداية في منطلقاته على القيم، فمنذ أول قطرات الندي التي نزلت من السماء إلى الأرض في 6 آيات مباركات، نلاحظ أن لفظ الإنسان قد ذُكر فيها مرتان، كما ذُكر العلم والقراءة والقلم، وعُرِّف الله تعالى فيها بالإكرام، وكأن القرآن نزل من أجل الإنسان، لتكريمه ومنحه أدوات النهوض والرقي والتحضر، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق).
المشروع الإسلامي لخصه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فجعل الأخلاق مقصد الرسالة الأبرز، فقال في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
المشروع الإسلامي الذي حينما انطلق في ميدان العلم كان تعلمه باسم الله تعالى، وليس لصناعة أسلحة الدمار الشامل، أو تشويه الفطرة الإنسانية، أو التسلط، على البشرية بصور الهيمنة المختلفة، لذا لم يؤثر عن العالم الإسلامي يوم أن ملك الدنيا علماً ومعرفة وريادة أنه احتكر العلوم والمعارف، بل كانت أوروبا تغرق في ظلمات الجهل والتخلف، في الوقت الذي كانت فيه الأندلس تفتح المختبرات العلمية والمدارس الفكرية، وتبذل الخير للبشرية كلها، فلم تستخدم علومها لإذلال البشرية أو التحكم فيها، بل كان التكريم الإنساني هو المعلم الأبرز في تاريخ الأمة الإسلامية.
وعلة ذلك أن مرجعية المشروع الإسلامي ربانية في تشريعها، رحيمة في وسائلها، حكيمة في أساليبها، أخلاقية في مقاصدها، فهي مرجعية ربانية لا مجال فيها للأهواء، ولا للعلو والاستكبار، قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83).
أما مرجعية النظام العالمي فهي مرجعية الأهواء، والسعي لتحقيق مقاصد التجمعات والتكتلات السرية الحاقدة على البشرية، التنظيمات التي لا تشغلها قيم، ولا تعنيها البشرية في شيء، فهي لا ترى إلا مكاسبها السياسية والاقتصادية، ونشر فلسفاتها المنحرفة ساعية إلى الإفساد في الأرض بكل ما أوتيت من قوة!
واجباتنا
الحقيقة أن هناك واجبات يجب أن نسارع إلى القيام بها، منها:
– أن نجدد الثقة في منهجنا ومعتقداتنا وقيمنا، وأن نعض عليها بالنواجذ، وأن ندرك عظيم منة الله علينا، ومدى حاجة البشرية إلى النور الذي بين أيدينا.
– تعرية المنظومة الغربية الفاسدة، وبيان حقيقة تخلفها الإنساني، وانحدارها الأخلاقي تحصيناً لأجيالنا، وحماية لهويتنا، واعتزازاً بقيمنا.
– التوقف عن السير وراء هذا الإفك، والاعتزاز بما لدينا من مفاهيم إنسانية راقية، وقيم اجتماعية سامية، مفتاح يقيني للنجاح، وميلاد حقيقي جديد للأمة.
– التيقن بأن الناس بعيداً عن قيم الإسلام ومفاهيمه ليسوا إلا مجموعة من الذئاب ينهش القوي فيهم الضعيف، ويتسلط فيهم الغني على الفقير.
– فهم نظام الإسلام الشامل وتطبيقاته في مجالي الشعائر والإعمار، والعمل الجاد لإغاثة البشرية بتقديم القدوة الحسنة علماً وعملاً، قولاً وفعلاً، اعتقاداً وهدياً، فحاجة البشرية الى الإسلام الذي يمشي على الأرض أكثر من حاجتها لمجرد الخطابات والكلمات والمظاهر والدعايات.