يمتلئ المجتمع الإسلامي اليوم بدوامات عاتية من الصراع القيمي، كنتيجة لإقحام القيم الغربية محل القيم الإسلامية الأصيلة، وذلك بُحجة مواكبة العصر، ومع التلقف المحموم للقيم الغربية تذوب السمات المميزة للشخصية المسلمة ويرق إيمانها، وكلما رق إيمان العبد ضعف واهتز عند النوازل، يقول الله سبحانه وتعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27)، فالإيمان شرط الثبات عند الابتلاء، وفي هذه الكلمات بيان لتأثير القيم على الإيمان وقت الابتلاءات.
أولاً: القيم والإيمان:
يمكن فهم العلاقة القوية بين القيم والإيمان من خلال تعريف مفهوم القيم في الإسلام بأنها: «حكم يصدره الإنسان على شيء ما مهتدياً بمجموعة من المبادئ والمعايير التي ارتضاها الشرع، محدداً المرغوب فيه، والمرغوب عنه من السلوك»(1)، فالعبد الصالح يُحسّن ما حسنه الإسلام ويُقبح ما قبحه، ثم ينبني عمله على ذلك؛ أي أن القيم الإسلامية هي الصورة التطبيقية العملية لمفهوم الإيمان، ولذلك كثر في القرآن الاقتران بين الإيمان والعمل الصالح، ومن المعلوم أن الإيمان يزداد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فكلما وافق العبد فهم القيم الإسلامية والتزمها؛ ازداد إيمانه.
ثانياً: أثر القيم على حال المسلم عند الابتلاءات:
كما صرح القرآن بأثر الإيمان على الثبات وقت النوازل، فإنه صرح كذلك بأثر القيم على سلوك الفرد عموماً ووقت الابتلاء خصوصاً، ترغيبًا للمسلم بالتحلي بها، وتنبيهًا المجتمع الإسلامي للعناية بغرسها وتثبيتها، لتحقيق النموذج القرآني للمجتمع الفالح، ومن تلك التوجيهات:
١- قول الله تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج).
وهذه الآيات تصف حال المسلم عند الابتلاء بالضعف ثم الابتلاء بالتمكين، وقد اشتملت على عدة قيم، منها:
– قيمة العمل: أعلى الإسلام من قيمة العمل بتعليق ولاية الله لعباده ونصرته لهم على ما يبذلونه لنصرة الدين عمليًا، وأخذهم بالأسباب المأمور بها لتحقيق ذلك، فلا يُخيفهم نقص الإمكانيات، ولا قوة عدوهم، لأن اعتمادهم فحسب على الله القوي العزيز.
– قيمة الحق: إن تمسك النفس المسلمة بقيمة الحق ينعكس على أدائها حال الاستضعاف، فلا تستسلم للباطل مهما اشتد واستعلى، وأما حال التمكين وتولي القيادة؛ فلا تحركها الشهوات مثل حب التسلط والتكبر في الأرض وغيرها، ولكن توجهها قيمة الحق؛ وذلك لتعبيد الناس لرب العالمين المتمثل في إقامة شعائر الدين.
– قيمة الأمانة: فاستشعار المسلم لقيمة الأمانة وأنه محاسب عن كل ما استخلفه الله فيه من مناصب أو موارد بشرية أو مادية يجعله لا يصرف شيئًا منها إلا بحقه.
إن استحضار المسلم لتلك القيم في ابتلاء الاستضعاف يجعله يصمد ويبذل ما عليه، ومن أشد ما يزيده قوة وثباتًا رغبته في ولاية الله له، وإنا لنرى تجسد هذه المعاني بشكل حي فيما يواجهه المسلمون الآن من ابتلاءات مثل ما في غزة وغيرها، فصمودهم في وجه الباطل رغم تجبره وعتاد جيشه وإمدادات حلفائه ليس له غاية سوى الثقة في وعد الله، وإن بذلهم لكل غال وثمين لهو تمسك بالحق وحمل للأمانة التي استخلفهم الله لأجله.
2- قول الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور: 22).
وقد نزلت هذه الآية بعد «حادثة الإفك»، وابتلاء أبي بكر الصديق في ابنته ثم ظهور براءتها، وكان الصديق ينفق على قريبه المسكين مسطح بن أثاثة، الذي قد أقيم عليه الحد بسبب خوضه في الإفك، فأقسم الصديق أن يمنع عنه النفقة، فنزلت هذه الآية(2)، وفيها إشارات لأهم القيم التي يتمسك بها العبد عند الابتلاء، مثل:
– قيمة الإحسان: إن الإحسان إلى الناس من أجلّ العبادات، وهي صفة يحبها المولى عز وجل من عباده، ونفع الناس وكشف كرباتهم من صفات الأنبياء، فموسى عليه السلام لم يمنعه خوفه وغربته في مدين من الإحسان إلى الفتاتين، كما حكى الله تعالى عن حاله فقال: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 24).
– قيمة التسامح: فقد أعلى الإسلام من قيمة التسامح باعتبارها نابعة من قوة الإيمان، فالمسلم يعفو عن أخيه المسلم وإن قدر عليه رغبة في عفو الله ومغفرته، ثم رغبة في زيادة أواصر المحبة بين المؤمنين، ونيل أعلى درجات الجنان.
– قيمة العطاء: فإن العطاء فرصة عظيمة لتزكية النفس وتطهيرها من حب الذات، وزيادة المحبة والتعاون بين أبناء المجتمع الإسلامي، والعطاء لا يكون مادياً فقط كما يحسب البعض، ولكنه أيضاً معنوي مثل تصدير معاني الحب والشفقة والرحمة وتعليم العلم وغيره من مظاهر العطاء التي لا تعد ولا تحصى.
فاستحضار المسلم لتلك القيم عندما يُبتلى يزيد من رقة قلبه، ثم يضبط سلوكه تجاه غيره، مما ينعكس على سلوك المجتمع الإسلامي ككل بوجود وسيلة للتفاهم والتقارب، فتقل بذلك الخلافات والصراعات الداخلية ويشتد الترابط بين أفراده.
ثالثاً: أثر الصراع القيمي على المسلم:
تتميز القيم الإسلامية بربانيتها وثبوت مرجعيتها وشموليتها لكل نواحي الحياة، مما يُضفي على نفس المسلم الاطمئنان والسكينة، لأن كل أفراد المجتمع الإسلامي يتحاكمون لنفس القيم ولذات المرجعية الدينية، ولكن ما يحدث الآن بسبب العولمة وتبادل الثقافات اللا محدود؛ قد أظهر الصراع القيمي في مجتمعاتنا بين القيم الإسلامية والغربية، الذي أسفر عن تغير المنظور القيمي للفرد المسلم، بل في عامة البلاد الإسلامية، والشعور الدائم بالقلق والحيرة لاعتماده على القيم الغربية المنفصلة عن دينه، وهذا فيمن لا يزال يعتبر مرجعيته الوحي الشريف، بخلاف من انسلخ عن ذلك بالكلية في اعتقاده وسلوكه.
لذا يجب العناية بإعادة غرس الهوية الدينية والقيم الإسلامية في الشباب من خلال الدورات التوعوية، وتغذية نفوس الأطفال بذلك منذ الصغر، والحرص على ربطهم بالقرآن طوال حياتهم؛ ليحصنهم من سبل تغيير الهوية هذا، ويزيد الإيمان في القلوب مما يبعث على ثبات المرء عند الابتلاء؛ فلا يتذبذب ولا يتخبط.
إنه لا غنى للمسلم عن التمسك بالقيم الإسلامية التي تدفعه بقوة إلى مواجهة صعوبات الحياة وما فيها من ابتلاءات وفتن، فتحصل فيه بذلك قوة مستمدة من نور الوحي، فتضفي على نفسه السكينة، وتكسبه الثبات، وتزكي نفسه عن نزواتها، حتى يلقى الله يوم القيامة بقلب سليم.
_______________________
(1) علم النفس الاجتماعي، د. حامد زهران، ص132.
(2) صحيح البخاري (2661).