يجري بشكل ممنهج استهداف الأسرة المسلمة، عبر غزوها بثقافة الاستهلاك؛ بحثاً عن التميز والتفاخر ومسايرة الموضة والماركات العالمية؛ ما جعل من النمط الاستهلاكي أحد معاول الهدم لثقافة وهوية وأموال الأمة.
«المجتمع» تتناول تلك القضية في هذا التحقيق، بحثاً عن روشتة علاج لهذا المرض الذي تفشى في مجتمعاتنا، واستنزف أموالنا وثرواتنا.
تؤكد د. سناء محمد، أستاذة إدارة مؤسسات الأسرة بكلية الاقتصاد المنزلي جامعة حلوان، أن الدراسات الاجتماعية والنفسية فضلاً عن الدراسات الاقتصادية الحديثة تؤكد أن المرأة أكثر إنفاقا وتبذيرًا من الرجل في عمليات الشراء، وخاصة في المناطق الحضارية، والدول الأكثر ثراء لأنها تكون أكثر تقليداً لنمط الحياة الغربية الاستهلاكية حيث المولات والعروض والملاهي والمتنزهات التي تجذب كل أفراد الأسرة.
المرأة أكثر إنفاقاً وتبذيراً من الرجل في عمليات الشراء
وأشارت إلى أن هناك مخططات دولية يقودها رجال الأعمال غير المسلمين بالتعاون مع المنظمات النسوية الغربية لفرض واقع ميداني يشجع غالبية النساء على إنفاق رواتبهن أو رواتب أزواجهن يكون فيما يطلق عليه «الاستهلاك الفاضي»، والواقع يؤكد أن الرجل يكون إنفاق راتبه في شراء السلع الضرورية؛ لأنه المسؤول عن تدبير أمور أسرته المالية، ولهذا يكون أكثر عقلانية في الإنفاق حتى لا يتعرض لأزمات مالية هو المسؤول عن حلها ومواجهتها إن وقعت، أما غالبية النساء فيكن أقل إحساساً بالمسؤولية تجاه تدبير ميزانية الأسرة، والغريب أن الذهاب إلى المولات والشراء منها بكثرة قد يكون وسيلة لاسترضاء الزوجة في حالة المشكلات الزوجية فيحاول الزوج إصلاح ذات البين بشراء زوجته من الكماليات أكثر من الضروريات!
أخطار التقليد
ويشير د. محمد أبو النور، أستاذ أصول التربية والعلوم النفسية بكلية التربية النوعية– جامعة القاهرة، إلى أن هناك مؤامرة على مجتمعاتنا، وفي القلب منها النساء، من خلال ثورة وسائل الاتصال ومواقع التواصل، التي فتحت آفاقاً كبيرة للمرأة العربية والمسلمة للاطلاع على حياة نساء الغرب، والتقليد الأعمى لها، بما في ذلك من التبذير والإسراف في شراء ما تحتاج إليه من ملبس حسب أحدث صيحات الموضة والأزياء العارية والممزقة، دون مراعاة خصوصيات المجتمع الذي تعيش فيه، بل إنها تجد في هذا التقليد إشباعاً نفسياً وتميزاً اجتماعياً بالتفاخر على غيرها من النساء، وجذب أنظار الرجال إليها.
وهذا ما فسره ابن خلدون في «مقدمته»، حين قال مقولته الشهيرة في الفصل الثالث والعشرين: «إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، فإذا كانت هذه المقولة حقيقة لدى كل غالبية المغلوبين فإنها أوجب وأكثر انتشاراً بين النساء في مجتمعات المغلوبين، ولهذا لا بد من وضع إستراتيجية متكاملة من مختلف المنظمات الرسمية والمجتمع المدني لحماية عقول بناتنا ونسائنا من هذا الطوفان التغريبي الاستهلاكي الذي يمثل خطراً على الأجيال الحالية والقادمة.
ثقافة التفاخر
وتؤكد د. منى كمال، أستاذة الاجتماع بكلية البنات- جامعة عين شمس، أن نساء الحضر أكثر استهلاكاً من نساء الريف، وكذلك نساء الدول والمناطق الثرية أكثر شغفاً بالشراء، من النساء في الدول الفقيرة أو الأقل ثراء، ويزيد الطين بلة أن غالبية نسائنا فقيرات فيما يطلق عليه ثقافة الادخار، ومريضات بثقافة التفاخر والاستعلاء، ولهذا فإن أغلب استهلاكهن يكون على الكماليات، مع العلم أن التعميم مرفوض، فليست كل النساء يعشقن التسوق الاستهلاكي بلا ضوابط عقلانية، وليس كل الرجال يتصفون بالرزانة، ولكننا نتكلم على الأغلب والأعم.
الأسرة تخلت عن دورها التربوي وقصرته على الإنفاق بسخاء
وتطالب كمال بأهمية تغيير نمط التنشئة والتربية في أسرنا العربية والإسلامية من خلال الاعتزاز بالدين والأعراف الأصيلة والهوية وعدم الانسياق وراء ما يروجه أنصار التغريب الاستهلاكي القائم على المظهر وإهمال الجوهر؛ لأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، وعلينا أن نربي أولادنا وبناتنا تربية صحيحة بأن نكون قدوة لهم، لأن البنت غالباً ما تكون نسخة مطورة من أمها التي هي المدرسة التي يتعلم فيها أولادها قبل أن يذهبوا إلى المدارس الرسمية، فالبنت تتعلم من أمها التدبير أو التبذير، وما تغرسه الأمهات تجنيه المجتمعات خيراً وتدبيراً، أو شراً وتبذيراً.
وأوضحت أن هناك دوراً واجباً على أجهزة الدولة بتوعية المرأة بأهمية ترشيد الاستهلاك وتقليل مظاهر الترفيه والترفيه غير العقلاني الذي يولد أجيال أيتام ويتيمات رغم وجود الآباء والأمهات، ولكن لا دور لهم في التربية فتركوهم لأصدقاء وصديقات السوء ووسائل الإعلام ووسائل التواصل ليدمروا أخلاقهم، وخاصة أن الأسرة تخلت عن دورها التربوي وقصرته على الإنفاق بسخاء.
ضوابط شرعية
وعن الضوابط الشرعية للاستهلاك عامة، يقول د. عبدالمنعم سلطان، رئيس قسم الشريعة بجامعة المنوفية: إن الإسلام يرفض أن يكون المسلم أو المسلمة إمعة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تحْسِنُوا، وَإنْ أَسَاؤوا فَلا تَظْلِمُوا.
ويوضح سلطان أن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، فهو يحرم البخل كما يحرم الإسراف والتبذير في تصوير رائع، فقال سبحانه: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء: 27)، وكفران نعمة المال يكون بالتبذير، مع العلم أن المال هو الوحيد الذي يسألنا الله عن كيفية كسبه وطرق إنفاقه، ووضع إسلامنا أسس الإنفاق الرشيد فقال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) (الإسراء: 29).
يجب وضع إستراتيجية لحماية مجتمعاتنا من الطوفان الاستهلاكي
وقد ورد في الأثر: «يأتي على الناس زمان همهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم، ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، وأولئك شر الخلق، لا خلاق لهم عند الله»، وقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحل الأمثل للإنفاق فقال: «رحم الله امرءًا اكتسب طيباً، وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته».
وينهي د. سلطان كلامه، مؤكداً أنه لا بد من تحرك المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية والثقافية وغيرها من المؤسسات ذات الصلة لمواجهة لهذه الموجة التغريبية الاستهلاكية التي تنذر مستقبل أجيالنا بكل شر وضياع، وتقدم الأمة لأعدائها على طبق من ذهب، وقد حذرنا الإسلام من التبعية العمياء، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَمَن؟!».