أورد ابن كثير في «البداية والنهاية» في أحداث عام 658هـ، أن خلافاً وقع بين سلطان الشام الملك الناصر بن العزيز، وملك الكرك المغيث بن العادل من ناحية، وسلطان مصر سيف الدين قطز من ناحية أخرى، وقد عزم الأولان على قتال الثالث، وانتزاع مصر من قبضته.
وبينما الناس على هذه الحال، تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام ومصر، فنسي الفريقان ما بينهما من عداوة وخصومة، وقاموا للقاء التتار تحت راية سيف الدين قطز، في معركة «عين جالوت»، فكان النصر المؤزر للإسلام وأهله، والهزيمة النكراء للتتار وأعوانهم(1)، ففي هذا الموقف دليل على أن الجهاد في سبيل الله كان سبيلاً إلى اجتماع كلمة المسلمين ووحدة صفهم في مواجهة عدوهم، وهو ما يدعونا إلى الوقوف مع ثمرات وفوائد الجهاد في سبيل الله في الدنيا، وبيانها كما يأتي:
أولاً: الجهاد سبيل إلى وحدة الصف وجمع الكلمة:
تبين ذلك في القصة السابقة، وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجهاد هو الوسيلة التي ينبغي أن يتم تفعيلها في وجه من أراد أن يفرق بين المسلمين، ففي صحيح مسلم من حديث عرفجة بن شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّه سَتَكُونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ، فمَن أرادَ أنْ يُفَرِّقَ أمْرَ هذِه الأُمَّةِ وهي جَمِيعٌ، فاضْرِبُوهُ بالسَّيْفِ كائِنًا مَن كانَ»، وفي تَمامِ الرِّوايةِ عندَ النَّسائيِّ: «فإنَّ يَدَ اللهِ على الجماعةِ، فإنَّ الشَّيطانَ مع مَن فارَقَ الجَماعةَ يَركُضُ»، والمرادُ أنَّ الشَّيطانَ يَتغلْغَلُ بيْن المفارِقِين لجماعةِ المسْلِمين، ويَحُثُّهم على أنْ يُعادِيَ بعضُهم بعضًا، ويُسرِعُ في الإفسادِ بيْنهم.
ثانياً: إظهار حقيقة المحبة لله تعالى:
الزاعمون لمحبة الله كُثُر، لكنهم حين يطالَبون بتحقيق الدليل على محبته في الخروج لنصرة دينه ومجاهدة أعدائه؛ فإن بعضهم يتراجع وينتكس، وقد أوضح الله تعالى أن الذين يحبهم ويحبونه لهم علامة واضحة، وهي أنهم يجاهدون في سبيل الله، فقد قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54)، فدعوى المحبة لا تقبل إلا بالبينة والدليل، ودليلها الاستجابة الفورية لنداء الجهاد وعدم الخوف من الأعداء.
وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيمية أن الْمَحَبَّةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْجِهَادِ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ مَحْبُوبُهُ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُ مَحْبُوبُهُ وَيُوَالِي مَنْ يُوَالِيهِ وَيُعَادِي مَنْ يُعَادِيهِ؛ وَيَرْضَى لِرِضَاهُ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي ذَلِكَ(2)، فَإِذا ترك العَبْد مَا يقدر عَلَيْهِ من الْجِهَاد كَانَ دَلِيلاً على ضعف محبَّة الله وَرَسُوله فِي قلبه(3)، وقد أوضح الله تعالى أن الجهاد فيه تمحيص للقلوب وكشف عما في بواطنها، فقال سبحانه وتعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران).
ثالثاً: الجهاد مصدر العزة والكرامة:
روى الطبراني عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب»، وفي صحيح الجامع عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتُم بالعينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ وترَكتمُ الجِهادَ سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلاًّ لاَ ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم»، فالجهاد هو السبيل إلى تحقيق الكرامة والعزة والمجد والفخار في هذه الدنيا.
رابعاً: فتح الباب أمام المستضعفين لنيل الحرية:
الجهاد في الإسلام لا يهدف إلى إكراه الناس على الدخول في الإسلام، حيث قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، وقال عز وجل: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، بل شرع الجهاد لإزالة الضغط والإجبار عن الناس وفتح الطريق أمامهم لقبول الدين أو رفضه مع عدم محاربته، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).
ولما كان بعض القادة المتجبرين يمنعون الناس من الحرية في اختيار دينهم شرع الإسلام جهاد هؤلاء الطغاة المستبدين لإزالة الحواجز بين الناس وهذا الدين.
خامساً: حماية المجتمعات الإسلامية:
أمر الله تعالى رسوله بالجهاد في سبيل الله، وأوضح له أن الجهاد يحمي المؤمنين من بأس وظلم الكافرين، حيث قال عز وجل: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا) (النساء: 84)، أما إذا علم الأعداء أن الضعف والجبن يسيطر على المسلمين؛ فإنهم يذيقوهم سوء العذاب ويسعون في إذلالهم وسلب خيراتهم، حتى يجدوا منهم قوة الإيمان والجهاد، فيخافوا منهم.
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن السبب في المذلة وتكالب الأمم على المسلمين هو الوهن والخوف، ففي صحيح الجامع عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها»، فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ»، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: «حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ».
سادساً: الجهاد سبيل إلى الهداية:
المجاهدون في سبيل الله تعالى من أهدى الناس إلى الحق، وأسعدهم بسبيل الله عز وجل عند اختلاف السبل، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، قال ابن تيمية في تعليقه على هذه الآية: الجهاد موجب للهداية، فقد جعل الله لِمَنْ جَاهَدَ فِيهِ هِدَايَةَ جَمِيعِ سُبُلِهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(4)، وفي آية أخرى أوضح سبحانه وتعالى أن المجاهدين في سبيله لهم الهداية، حيث قال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ {4} سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد).
سابعاً: الجهاد سبيل إلى تربية النفس وتزكيتها:
الجهاد ميدان الإخلاص والاقتراب من الله تعالى، فقد يموت المجاهد في موقفه هذا، ولا يرجع إلى أهله وأحبابه ليسمع منهم عبارات الشكر والثناء، فالمجاهد، في الغالب، أقرب الناس إلى الإخلاص، كما أن الجهاد يعلم صاحبه الصبر والتوكل على الله وحسن الاستعانة به، وفيه كذلك أعظم أمارات الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة. وهذه كلها أمارات التربية والتزكية للنفس المؤمنة.
ثامنا: الجهاد سبيل إلى التحرر من السيطرة الاقتصادية للعدو:
الجهاد مصدر من مصادر المال الحلال، حيث إن المنتصر في الجهاد تكون له الغنائم، ففي صحيح الجامع عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُعِثتُ بالسيفِ بينَ يدَي الساعةِ حتى يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريكَ له وجُعِلَ رزقِي تحتَ ظلِّ رمحِي وجُعِلَ الذلُّ والصغارُ على مَن خالف أمرِي».
وفي صحيح البخاري عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي: منها: وأُحِلَّتْ لي المَغَانِمُ ولَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي».
تاسعاً: تحقيق الأجر والثواب ما دام الجهاد باقياً والنية لم تنقطع:
في صحيح البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ -واللَّهُ أعْلَمُ بمَن يُجَاهِدُ في سَبيلِهِ- كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ، وتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ في سَبيلِهِ بأَنْ يَتَوَفَّاهُ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مع أجْرٍ أوْ غَنِيمَةٍ»، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا في سَبيلِ اللَّهِ إيمانًا باللَّهِ وتَصْدِيقًا بوَعْدِهِ، فإنَّ شِبَعَهُ ورِيَّهُ ورَوْثَهُ وبَوْلَهُ في مِيزانِهِ يَومَ القِيامَةِ».
عاشراً: تحقيق النصر والفتح المبين:
إن المجاهد يحرص على تحقيق النصر والفتح، بل إنه يحب ذلك، وهو أولى من الحصول على الشهادة، فالحصول على الشهادة مكسب خاص بالشهيد، ولا مانع منه، لكنه لا ينبغي أن يسعى إلى تحصيل الشهادة دون النظر إلى نصر الإسلام وعز المسلمين، لأن النصر مكسب عام، والمكسب العام مقدم على الخاص، فإذا جمع الله الاثنين فذلك خير كبير.
وفي القرآن الكريم تأكيد على أن النصر محبوب للمجاهدين، حيث قال الله تعالى بعد الحث على الجهاد: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف: 13).
_______________________
(1) البداية والنهاية، ابن كثير (17/ 395).
(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (10/ 58).
(3) العبودية، ابن تيمية، ص 96.
(4) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (28/ 442).