تعتبر الحروب بشكل عام أحد أهم أسباب مصادر الاضطرابات والضغوط النفسية بالنسبة للأطفال الذين غالباً ما يكونون ضحايا لنكباتها وما ينتج عنها من مصائب ودماء، وباتت بوابة ملغمة لتشتيت مستقبل الأطفال وتدمير صحتهم النفسية، وبات معظم أطفال بيئة الحروب ما بين يتيم أو مشرد أو معاق أو محروم.
في قطاع غزة، المنطقة المنكوبة بفعل توالي الحروب، تتواصل الآثار النفسية والصدمات الانفعالية التي أحدثها العدوان الهمجي، والحرب المسعورة الأخيرة والمستمرة، التي تشنها دولة الاحتلال الصهيوني على غزة منذ ما يزيد على 7 أشهر.
أعراض قاسية
أفاد تقرير لوزارة الصحة الفلسطينية، والمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أن عدد الأطفال الذين يحتاجون إلى الخدمات الصحية وخدمات الدعم النفسي بلغ نصف مليون طفل، يعانون من الاضطراب المستمر والقلق وفقدان الشهية، ولا يستطيعون النوم ويمرون بنوبات هياج عصبي، وشعور دائم بالفزع نتيجة القصف الذي لا يتوقف بالليل والنهار.
هؤلاء الأطفال يعتمدون بشكل أساسي على دعم ورعاية البالغين ممن حولهم، وبدرجة أولى الوالدان اللذان يقدمان لهم الدعم والرعاية، وهو ما ينقطع بشكل مفاجئ في الحروب نتيجة فقدانهما، أو فقدان الغياب العاطفي للوالدين، نتيجة للبيئة التي تفرضها الحرب بطبيعة الحال من خوف وتوتر، وتمحور التركيز حول غريزة البقاء وتوفير الحماية.
بالإضافة إلى صدمات الحرب المتمثلة بالإصابات الجسدية المباشرة، التي غالباً ما يصحبها إصابات نفسية، والتعرض المباشر لمشاهد الموت والقتل وغيرها، يترك آثاراً نفسية تعيش معهم طوال حياتهم، إضافة إلى اضطرابات القلق ونوبات الغضب والسلوك العدواني الذي يصاحبه الانعزال والتوحد أو العنف والأذى.
صدمات متتالية
إن هذا العدوان ليس الأول من نوعه، فقد شهد قطاع غزة منذ أكثر من 17 عاماً حتى اليوم 5 حروب، لم يتخللها سوى محاولات للتعافي منها وخوف غير منقطع من حرب قادمة، أو تصعيد تالٍ حتى أصبح اليوم العادي في حياة أطفال غزة لا يخلو من دخان وانفجارات وتدمير منازل ومنشآت مدنية، أما الأيام الهادئة، فهي أيام استثنائية.
ففي إحدى الدراسات البحثية حول العلاقة بين معايشة الحروب ومدى شيوع الاضطرابات النفسية لدى الأطفال في غزة، أُجريت مقابلات عدة مع 251 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 6 – 16 عاماً، من الذين ظهرت عليهم نتائج الحروب، خلصت نتائجها إلى أن أكثر الأحداث تأثيراً على الأطفال كانت سماع أصوات القصف المدفعي والطائرات المُقاتلة، وأصوات إطلاق النار، بالإضافة إلى تذكرهم مشاهد الأشلاء البشرية لضحايا الحرب.
نصف مليون طفل في غزة يحتاجون للدعم النفسي جراء القصف الصهيوني المستمر
ومن بين مَن تمت مقابلتهم، أظهر 148 طفلاً (59%) من عينة الدراسة الأعراض السريرية لاضطراب كرب ما بعد الصدمة، وعانى 62 طفلاً (22%) منهم من اضطرابات القلق، و130 طفلاً (51%) منهم من اضطرابات الهلع.
وخلصت الدراسة إلى أن المستويات الطويلة من التوتر الشديد لدى الأطفال قد تؤثر سلباً على النمو الفسيولوجي العصبي بطرق قد تكون لها عواقب طويلة المدى على الاستجابات السلوكية للتوتر وأمراض نفسية عدة، وأن الأطفال هم الشريحة الأكثر عرضة لخطر الصدمات النفسية، والتغيرات السلوكية والضعف، وأن الكوارث التي تحدث لهم في هذا العمر قد تكون لها عواقب نفسية طويلة.
اضطرابات ونوبات
تفرض الحروب أوضاعاً غير طبيعية على الأطفال، تتمثل في المعاناة من آثار ما بعد الصدمة وتوابعها، من فزع وخوف وقلق وعجز في نمو العلاقات العاطفية، أو رؤية إيجابية للحاضر أو المستقبل، والمعاناة العقلية والجسدية، والقصور وتأخر النمو العقلي والبدني، والعجز عن بناء أي تصور صحي لمختلف جوانب الحياة، وخلق كثير من الاضطرابات النفسية والعقلية، من اكتئاب وفوبيا ونوبات الهلع والتبول اللاإرادي والكوابيس الليلية، والاضطرابات الذهانية كالهلوسة السمعية والبصرية، وانفصام الشخصية، والسادية والسيكوباتية، مما يخلق شخصية مريضة ضعيفة تشكل عبئاً على ذاتها وعلى المجتمع.
كما أن الآثار السلبية للصحة النفسية تتعاظم على الأطفال في الحروب، وإمكانية السيطرة عليها تقل كلّما طال أمد الحرب، ذلك أن الاهتمامات الاجتماعية تتجاوز ضرورات التدخل النفسي للأفراد بشكل عام، والأطفال بشكل خاص.
علاجات وتدخلات
وتتمحور معظم المشكلات النفسية للأطفال في الحروب حول الشعور بالتهديد الذاتي، والخوف من الاضطهاد العسكري، والفقدان العاطفي لأحد الأبوين أو كليهما، وانهيار ميزة الأمان، مما يؤدي للشعور الدائم بالقلق والخوف، وبدء آثار عزلة اجتماعية وانطواء ذاتي، تستلزم مجموعة من التدخلات الضرورية سواء أثناء الحرب أو بعدها كإسعاف الأطفال نفسياً، ومنها عدم المبالغة في إثارة الخوف أمامهم، والظهور بالصلابة النفسية لما لها من تأثير إيجابي في إظهار التماسك الأبوي والعائلي، والأهم إلهاؤهم عن قصص الحرب في مهارات أخرى، كالرسم والإنشاد والقراءة والكتابة.
تستهدف هذه الحرب بشكل أساسي الأطفال الذين هم في مرمى نيران الجيش الصهيوني، الذي يتعمد قتلهم دون أن يلتفت لهم أحد، أو يعبأ لمعاناتهم، ويعيشون تجارب تفوق التصور، ستنطبع في نفوس من يبقى منهم على قيد الحياة، وبرغم ما يمكن عمله من تدخلات مهنية وعلاجية ومجتمعية لمساندتهم، ستظل نفسياتهم وسلوكياتهم غير طبيعية.