فتيات بأثواب زاهية وحجاب إسلامي يمضين اثنتين اثنتين في موكب احتفالي يحملن باقات الزّهور، وشبّان يرتدون حُللاً رسميّة يمضون أيضاً اثنين اثنين في نفس الموكب، ويرددون التّكبيرات في نغمة اعتاد إنشادها مسلمو البوسنة والهرسك في مناسباتهم البهيجة.
تشهد شوارع المدن البوسنيّة الرئيسة كلّ مايو هذا المنظر الذي يلتفّ حوله الأهالي والمارّة ويرافقون الموكب حتى يصل لمبنى الاحتفال بتخريج هؤلاء الطّلبة من «المَدرَسة»، الاسم الاصطلاحي للمدارس الدّينية في البوسنة والهرسك.
ليس هذا الاحتفال ولا الموكب عاديّين، هو تعبير رمزي عن أمل البوسنة العظيم في شبابها خرّيجي الثّانويّة الدّينيّة في استمرار الهويّة المميّزة التي تحملها البلاد؛ الاعتزاز بالإسلام كدين يحمل قيماً إنسانيّة عالية، وانفتاحاً جعل البوسنة دولة احتضنت المجموعات الدّينية المختلفة بتسامح، وحضارة عالميّة تميّزت بحب المعرفة وربط طلب العلم بمرضاة الله.
كيف تمكن عدد صغير من المسلمين لم يتجاوز 3 ملايين المحافظة على انتمائهم للإسلام، وسط محيط يدين بديانة مختلفة وينتمي لحضارة مختلفة خلال العقود الممتدّة، ووسط هجمات شرسة تستهدف حياتهم ووجودهم الثّقافي، وهويّتهم وتاريخهم، ومحاولات تذويبهم في المحيط السّائد؟
ربّما تتفاوت الإجابات والتّفسيرات، وكلّها لن تغفل دوراً مهماً لإحدى أقدم المؤسّسات التّعليمية في البلقان، بل وأوروبا بأكملها؛ «المَدرَسة»، هذا اللفظ العربي العريق يتردّد في أنحاء البوسنة والهرسك بكلّ مهابة واحترام.
نبذة تاريخيّة
ذكر الغازي خسرو بك، أعظم والٍ مرّ على البوسنة والهرسك، في نصّ أمره ببناء أوّل «مدرسة»: «وَأَنْ يَكُونَ فِي المَدْرَسَةِ الَّتِي يُرِيدُ ابْتِنَائَهَا وَتَشْيِيدَهَا وِإِعْلائَهَا وَوَقْفَهَا لِلَّذِينَ يُحَصِّلُونَ العِلْمَ وَيُكَمِّلُونَ النَّفْسَ مِن الطُّلاَّبِ وَالعِبَادِ وَيَشْتَغِلُونَ بِالعُلُومِ العَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ مِنْ بَيْنِ العِبَادِ عَالِمٌ فَاضِلٌ كَامِلٌ نِحْرِيرٌ، كَاشِفُ أَسْتَارِ الحَقَائِقِ بِالتَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ، جَامِعٌ بِالفُرُوعِ وَالأُصُولِ، حَاوٍ بِالمَعْقُولِ وَالمَنْقُولِ، يُدَرِّسُ بِهِمْ دُرُوسَ التَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالأَحْكَامِ وَالأُصُولِ وَالمَعَانِي وَالبَيَانِ وَالكَلامِ وَمِنْ سَايَرَهَا أَيْضَاً حَسْبَ مَا يَقْتَضِيهِ العُرْفُ وَالمَقَامُ».
هذا الفهم لدور «المدرَسة» في المجتمع عدّه رئيس العلماء السّابق في البوسنة والهرسك مثالاً على التّقدّم الحضاري للمسلمين في المنطقة آنذاك مقارنة بنظرائهم في الدّول المجاورة، وقارن تلك المدرسة بمؤسّسات تعليمية أخرى في أوروبا نشأت في الفترة التاريخية ذاتها مثل أوكسفورد والسّوربون، ذاكراً في ورقته بعنوان «مدرسة الغازي خسرو بك في سراييفو تجربة تاريخية للاندماج»: «ليس من المفيد أن نقارن الغازي خسرو بيك مع نظرائه في الشرق فقط، بل لا بد من مقارنته مع نظرائه من مؤسسي المدارس الغربيين أو الأوروبيين، من أمثال روبرت دي سوربون الذي كان القسيس المفضَّل لدى الملك الفرنسي لويس التاسع، كما كان الغازي خسرو بيك حفيداً للسلطان العثماني بيازيد، فكلاهما أنشأ مدرسة على أساس المعتقدات الدينية، ولكن تاريخ مدرسة كل منهما كان مختلفاً.
فبدلاً من تقديم كل الإمكانات المعرفية، بحسب الزمان والمكان، بقيت مدرسة الغازي خسرو بيك عصِيَّة على الأنشطة العصرية، وبالتالي لم تتطور لتصبح جامعة فذّة، مثلما حدث لجامعة السوربون في باريس، وهذا ليس لأن مدرسة الغازي خسرو بيك لم يكن لديها تلامذة أمثال ديكارت، وسبينوزا، وفولتير، وروسو وغيرهم من طلاب السوربون الذين عانوا من ضيق أفق روبرت دي سوربون، بل لأن المسلمين فقدوا بصيرتهم شخصيات بارزة مثل الفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد، وابن خلدون، الذين لم يتمتعوا بسعة الأفق عند الغازي خسرو بيك، وبالطريقة نفسها، يمكن مقارنة مدرسة الغازي خسرو بيك في سراييفو ببدايات مدرسة أكسفورد التي أسست في القرن الثاني عشر، تَأَسِّيَاً بمدرسة السوربون».
وبعد إنشاء مدرسة الغازي خسرو بك، تتابع إنشاء المدارس في البوسنة والهرسك، وصل عددها لمائة مدرسة، حسبما يذكر الرّحّالة أوليا شلبي في مذكّراته عن زيارته لولاية البوسنة.
وتلك المدارس تمثّل الثّانوية العصريّة في زماننا الحالي، وتخرّج فيها آلاف العلماء والشّعراء والمفكّرون الذين كانوا نخبة المجتمع البوسني الثّقافيّة والدّينية والاجتماعيّة خلال حكم الدّولة العثمانيّة.
ومع استيلاء الشيوعيين على الحكم في البوسنة والهرسك ضمن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية السابقة، أغلقت كافة المدارس الإسلامية في البوسنة والهرسك باستثناء مدرسة الغازي خسرو بك، ورغم ذلك فهي حتى لم تسلم من محاولات تهميشها وجعل الدّراسة فيها مستحيلة، فمن أجل التسجيل في هذه المؤسسة التعليمية، كان مطلوبًا إكمال مدرسة ثانوية غير مكتملة واجتياز امتحان الدورة الدنيا، وكان تحقيق مثل هذه الشروط شبه مستحيل.
في عام 1953م، تقدم مرشحان فقط للالتحاق بمدرسة الغازي خسرو بك، وخلال السنوات الدراسية الثلاث التالية، لم يتم قبول أي طلاب في السّنة الأولى من مدرسة الغازي خسرو بك.
يذكر جمال الدين لاتيتش، أحد شعراء البوسنة المشهورين في العصر الحديث، وكان طالباً في المَدرسة فَترة منتصف السّبعينيات، كيف كان طلاب المدرسة الشرعية يعامَلون معاملة المغضوب عليهم، فلا تقبلهم أي كلية في تخصصاتها، ورغم كونه شاعراً واعداً آنذاك وله إسهاماته الأدبيّة المنشورة في الصّحف لم يقبل في كلّيّة الفلسفة إلّا بمعجزة بسبب كونه خرّيج «المَدرَسة».
رغم كل هذا التّضييق على طلّاب «المَدرَسة»، فإنّ خريجيها حافظوا بقوّة على شعلة الهويّة الإسلامية والاعتزاز بها، وعندما سمحت السّلطات بإنشاء كلية الدراسات الإسلامية عام 1977م، كان قسم من خرّيجي «المَدرَسة» قد انضمّ لها، وقاد أساتذة وطلّاب الكلّيّة وكلّهم من خرّيجي «المَدرَسة»؛ ما يشبه نشاطاً تَوعويّاً في صفوف مسلمي البوسنة كان له أثر كبير في تثبيت الهويّة الإسلامية وتَحفيز الحوارات حول مستقبل المسلمين في البوسنة وسُبُل تحسين أوضاعهم داخل جمهورية يوغسلافيا.
وفيما بعد كانوا من أوائل قادة الجيش والسّياسيين الذين تولّوا الدّفاع عن البوسنة في وجه العدوان الصّربي ميدانيّاً أو في المحافل الدّولية، مثل وزير الخارجية حارث سيلايجيتش، وحسن تشنغيتش، وجمال الدّين لاتيتش.
وأعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن يوغسلافيا عام 1992م، منذ ذلك العام بدأت المشيخة الإسلامية بإعادة افتتاح المدارس الثانوية الإسلامية في البوسنة والهرسك، وبدأ إقبال الطّلاب يتزايد على الالتحاق بها، بعد أن أدرك كثيرون من مسلمي البوسنة قيمة معرفة علوم الشّريعة.
وليس سهلاً أن يحصل الطّالب على مقعده في تلك المدارس الدّينيّة، فهو يحتاج لاجتياز امتحان القبول أولاً، وأن يكون مستوى علاماته جيّداً في السّنوات السّابقة.
وتعمل هذه المدارس بنظام المدرَسة الدّاخليّة، وتهتم بالجانب التربوي لطلابها، وكذلك بالممارسة التّطبيقية لما يتعلّمونه، فمثلاً في رمضـان توفد «المَدرَسة» طلّابها للقرى البعيدة تحت إشراف المشيخة الإسلامية للقيام بالإمامة في صلاة التّراويح وتعليم الصّغار بعضاً من السّور القصيرة وشعائر الدّين.
وتدرّس العلوم الشّرعيّة واللّغة العربيّة إلى جوار المنهج الأكاديمي الحكومي حتى يكون الطالب مؤهلاً للالتحاق بأرقى الجامعات داخل البوسنة وخارجها.
فنجد ضمن منهاجها المواد التّالية: اللغة البوسنية، اللغة العربية، اللغة الإنجليزية، التّجويد، العقيدة، الفقه، التفسير، الحديث، الفلسفة، المنطق، التّربية، علم الاجتماع، الرّياضيات، الرّياضة، تاريخ الإسلام، علم النّفس، الأخلاق والتّزكية، ولا بد من إتمامه حفظ 3 أجزاء من القرآن الكريم كي يتخرّج الطالب في «المَدرَسة».
وهذا الزّخم في المواد والنّشاط المكثّف في ميدان الحياة التّطبيقيّة جعل من طلّاب «المَدرَسة» نموذجاً يحتفي به مسلمو البوسنة والهرسك، لأنّه يعيد لهم صورة ماض عريق مزدهر، يتوقون إلى استعادته والأمل معقود دائماً على فتية يحملون الرّوح اللازمة لإيقاظه من جديد.