التوكل على الله والاعتماد عليه عبادة من أفضل العبادات القلبية، وخُلُق من أعظم الأخلاق الإيمانية، وهو منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقربين، أو قل إن شئت: إن التوكل نصف الدين، وأما النصف الآخر فهو الإنابة، كما قال ابن القيم، قال تعالى: {عليه توكَّلتُ وإليه أُنيب} [هود: 88].
وليس معنى هذا أن التوكل إهمال الإنسان نفسه، كما يعتقد بعض الجهال، لكن لا بد أن يأخذ الإنسان بالأسباب والوسائل، ويبذل آخر ما في وسعه؛ لأن اتخاذ الأسباب باب من أبواب الإيمان بالله، فيجب علينا أن نحقق التوكل بهذا الفهم؛ فالأمة التي تفهم التوكل بهذا الفهم، وتطبقه كما فهمته، أمة تستحق المدد من ربها، وسوف تتحقق لها السيادة الحضارية على الأرض؛ فالمدد الإلهي لا يأتي للقاعدين المستريحين، والسيادة الحضارية لا تتحقق للمتغافلين عن سنن الله في الكون.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما كان حينما مرّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون، قال: أنتم المتواكلون؛ إنما المتوكل رجل ألقى حَبّه في بطن الأرض، وتوكّل على ربه، عز وجل.
وقد كانت قصة موسى مثالًا وضحًا على ذلك؛ فموسى، عليه السلام، جاء إلى فرعون وقومه من رب العالمين، فكذبه فرعون وسطا عليه بقوته، فأمر الله موسى بالخروج ليلًا، فخرج موسى ومن معه ليلًا كما أمرهم الله تعالى، متجهين ناحية البحر، فأتبعهم فرعون وملؤه بمكر من فرعون وبطر، يريدون أن يفتكوا بهم حيث يملكون العدد والعدة، مع الغيظ والغضب الشديدين {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إنَّ هؤلاء لَشِرذمةٌ قليلون وإنَّهم لنا لغائظون وإنَّا لجميعٌ حاذِرون} [الشعراء: 53 إلى 56].
وصَلَ موسى ومن معه البحرَ فكان من أمامهم، ليس معهم سفين، ولا هم يملكون خوضه، وما هم بمسلحين، وفرعون من خلفهم، وقد قاربهم بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم، ولا يرحمون!
وقالت دلائل الحال كلها أن لا مفر، البحر أمامهم، والعدو خلفهم؛ ونظر أصحاب موسى إلى الأسباب الأرضية فلم يجدوا مناصًا من فرعون، فقالوا: {إنَّا لمُدرَكون}، فتوافق لسان الحال ولسان المقال، لكن موسى كليم الله، الذي خرج لأمر الله له بالخروج، لم يقف عند تلك الأسباب الأرضية، لطالما فعل كل ما يملك من هذه الأسباب، بل رنا ببصيرته إلى من بيده ملكوت كل شيء، الذي إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
وقد كان موسى موقنًا أن الله لن يخزيه أبدًا، ولن يتخلى عنه في وقت كهذا الوقت من الشدة والضيق، كيف؟ لا يدري، لكنه متيقن من هذا النصر، وكيف لا، وقد قال الله له هو وهارون منذ أن أرسله إلى فرعون: {لا تخافا إنَّني معكما أسمع وأرى} [طه: 46]؟. وبمقتضى هذا الإيمان من موسى، ويقينه في النصر من الله تعالى قال: {كلَّا إنَّ معيَ ربِّي سيهدينِ} [الشعراء: 62].
وعندما انقطعت الأسباب الأرضية بموسى ومن معه، تدخلت القدرة الإلهية بما لم يتخيله البشر، وما لم يكن لهم تخيله {فأوحيْنا إلى موسى أَنِ اضرب بِعصاكَ البحر فانفلق فكان كلُّ فِرقٍ كالطَّود العظيم وأَزلفْنا ثَمَّ الآَخَرين وأنجيْنا موسى ومَن معه أجمعين ثُمَّ أغرقنا الآَخَرين إنَّ في ذلك لآَيةً وما كان أكثرهم مؤمنين وإنَّ ربَّك لَهُو العزيز الرَّحيم} [طه: 63 إلى 68].
تلك هي حاجة موسى وقومه إلى التوكل على الله تعالى، وقد كانت أشد وأعظم من حاجتهم إلى الأسباب الأرضية، فبسبب توكل موسى على الله، وإيمانه به أيده بنصره من طريق لم يكن في حسبانه هو وقومه.
فحاجة الأمة المسلمة التي تريد أن تبني حضارة على قيم إسلامية صحيحة إلى التوكل على الله، كما قال العلامة القرضاوي، يرحمه الله، كحاجة الطفل الرضيع إلى أمه، وهي لا شك حاجة شديدة، وخصوصًا في عالم المادة التي شغلت العقول والقلوب، وأورثت عقول أبنائها تعب البدن، وهمّ النفس، وأرق الليل، وعناء النهار، فإن هي حققت التوكل في نفسها، فسوف تجد فيه ركنًا ركينًا، وحصنًا حصينًا تلوذ به في مواجهة طواغيت الكفر والمادة، وفراعنة الظلم، وقرناء البغي؛ لأنها سوف تنتصر بالله، وتستعز بالله، ولن تذل أبدًا: {إن ينصركم اللَّه فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الَّذي ينصركم من بعده وعلى اللَّه فلْيتوكَّل المؤمنون} [آل عمران: 160].
وما نراه اليوم في غزة من انتصارات مرجعه إلى الإيمان الذي غمر القلوب، والتوكل على الله، حيث أخذوا بكل ما يملكون من أسباب القوة -وما يملكون منها إلا قليلاً-، ثم تركوا قوة عدوهم ولم يخشوها اعتمادًا على قوة الله، ولم يلتفتوا إلى عتاد عدوهم؛ لأنهم توكلوا على الله، ووثقوا به سبحانه، وعلموا أنه: {وما يعلم جنود ربِّكَ إلَّا هو} [المدثر: 31].
(*) أستاذ الأخلاق والفكر الإسلامي.
نقلًا عن “مدونة العرب”.