محبوبة
الشخصية النسوية الأولى والمهمة في الرواية شخصية محبوبة زوج فضل الله الزيات الشخصية الذكورية الروائية الأولى والرئيسة في المعالجة الفنية. محبوبة رمز التمسك بالشعائر الدينية والتمسك بالبقاء في الوطن، والإحساس المرهف تجاه ما جرى لسليمان الحلبي الذي وضعه الغزاة الفرنسيون على الخازوق بعد مقتل القائد الفرنسي الدموي كليبر، وفي الوقت نفسه تمثل صورة الغضب والألم لما يتعرض له النصارى- حسب زعم الرواية- من مذابح يقوم بها الأهالي المسلمون (الرواية ص11).
تتساءل محبوبة: الفرنسيس في كل مكان، والأهالي يحاربونهم، ولكن لماذا يدخل الأهالي بيوتنا ويستحلونها؟ حسبونا عليهم لأننا نصارى مثلهم، نصوح باشا نادى: اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم، عثمان كتخدا يعطي البقشيش على رؤوسنا، يقطعون رقابنا ويأخذون رؤوسنا في أجولة، رأس الفرنسيس بخمسمائة درهم، ورأس النصراني بمائتي درهم. (الرواية: ص 11) المشايخ والأهالي، ومعهم المماليك وأتراك خان الخليلي والمغاربة يفتشون عن أي مسيحي ليذبحوه، ويفضحون النساء ويجلدونهن عرايا، ويقطعون رؤوس الأطفال أمام أمهاتهم، دخلوا على البيوت وقطعوا رأس البنية من أجل الذهب! (الرواية، ص 12).
في أي كتاب وردت هذه المذابح التي جرت للنصارى؟ المؤرخون الفرنسيون أنفسهم لم يذكروا شيئا من هذا القبيل، فلماذا شيطنة المسلمين الذين قتل الفرنسيون منهم ثلاثمائة ألف أيام كان تعداد الشعب المصري مليوني ومائة ألف نسمة؟
المسلمون وحدهم الذين تعرضوا للذبح والأذى، والخيانة أيضا.
لماذا يا محبوبة قلبت المسألة، وجعلت الجاني ضحية، والضحية جانيا؟
تصف الرواية محبوبة أنها لا تشبه الأخريات. حاجباها بارزان دقيقان عاقدان، عيناها لوزيتان عسليتان نظرتهما حادة كالصقر، خداها عاليان، أنفها مدبب شامخ، يعطي انطباعا بجرأة وصرامة تصل أحيانا إلى حد العبوس (الرواية، ص15) ويوحي هذا الوصف أنها أقرب إلى الوطنية والصدق، ولن يدفعها التعصب إلى اختلاق مظالم ليست حقيقية. يحار المرء أمام شخصية تجمع بين التناقضات الصفاء الروحي والافتراء على أخوة الوطن. هذه التي لم يسعدها زيادة دخل زوجها فضل الله، ولم تتقبل شكله الجديد بدون اللحية بعد انضمامه للغزاة، وكأن هناك شيئا وقف بينهما. لم تعد محبوبة التي كان يعرفها منذ استخدامه التبغ الفرنسي ومصادقته الفرنسيين وتدريبه في معسكرهم. لم تعد شفتاها تستجيبان لي، ولم يعد نهداها يستقبلاني(!!) نافرين كعهدي بهما. “لا تلمسني بيدك الملوثة بدم القتلى” (الرواية، ص 37). تباعدت محبوبة عن فضل لانضمامه إلى الغزاة، وانزعجت بسبب وضع الحلبي على الخازوق، ولكن حلمها أو كابوسها لا ينسي شيطنة إخوان الوطن. في الحلم أو الكابوس تستعيد وحشية المسلمين، اقتحام بيتها والقبض عليها بطريقة بشعة والإطاحة بها أرضا حتى سمعت صوت ارتطام عظامها وفي ثوان معدودة كانت تُجرّ معصوبة العينين من يديها ورجليها وشعرها جرا وسط صراخ كل من حولها في البيت والحارة..(ص،38)، ويستكمل الحلم البشع صورة التعذيب الوحشي وإعداد الخازوق ودقه بالمطرقة في دبرها وظل جسدها معلقا على الخازوق حتى أكلته الجوارح (ص، 39)، وتهاجمها الكوابيس والأحلام المزعجة في غياب فضل الله منذ تلك الليلة التي علق فيها الحلبي على الخازوق في تل العقارب (ص، 41)، وهو خازوق غير فرنسي بالطبع، هو خازوق إسلامي بالضرورة كما رشحت به أفكار محبوبة، التي لم تفلح في علاجها وصفات جرجس غزال ولا صلوات الأب مكاري، ولا أدوية الأطباء الفرنسيين.
رفضت محبوبة عرض فضل الله بالسفر معه، رفضت بعناد عجيب. شيء ما يربطها بتلك الأرض لا تعرفه، وتد آخر أقوى من وتد فضل الله، وكما رفضت محبوبة رفض أبوها جرجس السفر، وكذلك رفضت أم فضل السفر قائلة: “لقد كبرت يا فضل، ولا أتحمل الغربة، سأعود إلى الصعيد، إلى أهلي وقريتي حتى أدفن هناك” (الرواية، ص 52).
يجيبها فضل بعد أن أخفقت في إقناعه بعدم الذهاب إلى فرنسا:
“لن أبقى في بلد يقولون فيه: “انزل من على البغلة يا نصراني”. انتظريني يا محبوبة سأعود. من المؤكد أن الفرنساوية سيعودون، سيجهزون أنفسهم بشكل أفضل، وسيعودون وسأعود معهم لنهزم المماليك” (الرواية، ص 53)، ولكن محبوبة تقرر أن الفرنساوية انهزموا بما فيه الكفاية ولن يشغلوا بالهم بالمماليك ولا بالبغلة التي لا تريد النزول من عليها، وتناشده البقاء وسيسامحه المماليك فقد وعدوا بهذا. ولكنه يرفض” لن أطأطئ رأسي لهم مرة أخرى بعد أن تعلمت أن أقول لا، سأموت قهرا إذا بقيتُ” (الرواية، ص 53).
“كانت نظرتها الي ملؤها الكبرياء والتحدي جديرة بأن تجعل كل من يحاول الاقتراب منها يفر هاربا من أمامها خوفا…”(الرواية، ص13).
بعد عشر سنوات من غياب فضل، ثم موته قتيلا في روسيا، وهو يحارب لحساب فرنسا، وبلوغ ابنها فضل الصغير عشر سنوات، يقرر محمد على باشا تكوين جيش لمصر. وتشرد محبوبة بحسرة من سرق منه عمره. لآن العثمانيين والفرنساويين أصبحوا أحبابا، وهي التي عاشت عمرها كله بوصمة زوجة الخائن (الراية، ص283).
قطع أفكارها دخول ابنها فضل.. قدمته محبوبة للضابط:
- هذا فضل الصغير.
نظر سيفيز إلى فضل قائلًا:
- تشبهه جدا، والدك كان قائدا عظيما في جيوش نابليون. كان محاربا بارعا واستراتيجيا أبرع، تعلمت منه الكثير، حاربتُ تحت قيادته كثيرا في النمسا وروسيا…. وأنا هنا أطبق بعض ما تعلمته منه في تأسيس جيش عظيم لمصر. (الرواية، ص 284).
- هل أستطيع أن ألتحق بالجيش لأكون ضابطا عظيما مثل أبي؟
وقع قلب محبوبة. هلعت. فرنسي آخر يأتي ليأخذ فضل، هل ستحرمها شهوة السلاح من زوجها وابنها؟ (الرواية، ص285)
- أين دفن فضل؟ ربما يستطيع فضل ابنه يوما ما أن يزور قبره؟
تعجب سيفيز لذكائها الحاد أو لحدسها العالي، حدس الزوجة الحبيبة التي تفقد زوجها
ولكن حتى هذا السؤال لم يجد له إجابة (الرواية، ص286)
فضل الله الزيات
وشخصية فضل الله الزيات تبدو النسخة المحدثة من يعقوب، فهو متيم به، معجب بأفكاره وآرائه وسلوكه، ومؤمن بالهويّة القبطية (النصرانية لمصر)، وضرورة تحريرها من المسلمين الطغاة (يمثّلهم المماليك والعثمانيون) ويتحول من حِرَفي صغير، إلى جنرال في الجيش الفرنسي بعد هروبه إلى بلد المستعمر الغازي. “اتفقت مع المعلم يعقوب، وفي الصباح سوف أتحرك إلى معسكر التدريب” (الرواية، ص 30). خلع العمامة والجلباب وحلق ذقنه وارتدى زي الجنود الفرنسيين، وتم ضمه إلى تشكيل به 150 جنديا من القبط (النصارى). يتدربون في ساحة مفتوحة أو الخلاء الزراعي، ويذهب إلى المدرسة لتلقي التعاليم النظرية والمبادئ العسكرية وسلوكيات الجندي النبيل(!!) والتكتيكات الحربية، ومبادئ اللغة الفرنسية (الرواية، ص 31)، ويتعامل مباشرة لأول مرة مع القائد “فابيان” المحارب فوق العادة، حيث يلاحظ أن فضل يشبه قدماء المصريين (الرواية، ص 33) وأنه ماهر في الرمي واقتناص الهدف بسهولة (الرواية، ص 34-35) وكل ذلك لم يسعد محبوبة وجعلها ترفض الفطائر الفرنسية، وتنفر من شكله الجديد بدون اللحية، وتعتصم بالصمت ولا تبتسم، ولا تبادله فرحته بما تعلمه في معسكر التدريب، وحين يقترب منها ليداعبها تبتعد عنه “لا تلمسني بيدك الملوثة بدم القتلى” (الرواية، ص37).
يتمزق فضل بين محبوبة وحلم القوة الطائفية، ويقدم طلبا للخروج من الجيش ولا يدري سببا. أهو اعتداء الفرنسيين على النساء والعجائز، أو بعد محبوبة عنه؟ (الرواية، ص44).
ويتعرض فضل لموقف صعب وهو في معسكر الفرنسيين حين يضرب اثنين من عساكر الفرنسيين سَكِرا واعتديا على فتاتين مصريتين، ويحال للتحقيق، وكانت نتيجته أنه تصرف تصرفا نبيلا يليق بأخلاق الجمهورية في حماية أعراض وحرمات المصريين، الذين أصبحوا اليوم إخوانا للفرنسيين، وتمت ترقيته إلى ملازم (الرواية، ص46)،
ثم يغالب فضل حلما وخوفا حين يخبر يعقوب أتباعه: من أراد البقاء فليبق، ومن خاف منكم على نفسه من بطش العثمانلية، وأراد أن يرحل معي إلى فرنسا فسنجتمع في الروضة بعد عشرة أيام من اليوم ومن هناك نرحل..
“داعبتنا جميعا الأحلام والمخاوف في آن واحد، الحلم أن نظل هنا دون أن نصاب بسوء، والخوف من أن نسافر إلى المجهول، الخوف أن نظل فيقتلوننا، والحلم أن نسافر فننجو (الرواية، ص49). كان هناك عفو عام أصدره الخليفة العثماني عن الخونة الذين عملوا مع الغزاة الفرنسيين، وأفاد منه المعلم جرجس الجوهري من كبار النصارى وآخرون، ولكن من أصروا على الخروج من الخونة كانوا يحلمون بعودة فرنسا واحتلالها لمصر، وتحريرها من العثمانيين والمماليك! وترفض محبوبة وأبوها وأمه السفر ومغادرة الوطن، (الرواية، ص 52-53).
ولقرب فضل من يعقوب، فإنه في سفينة الانسحاب إلى فرنسا يوصيه يعقوب قبل موته بابنته وزوجته مريم (الرواية، ص61)، ويقوم فضل بتغسيل جثمان يعقوب، ويتلو عليه المزامير، وينظر إليه بحسرة وحزن” تخيلت نساء النصارى اللاتي أنقذهن يوم كاد يُفتك بهن بأغطيتهن الزرقاء ملطخات وجوههن بالنيلة، يولولن، ينزعن شعورهن ويجرحن جلودهن عليك يا يعقوب” (الرواية، ص63). ويؤبن أستاذه الخائن متحدثا عن وحشية المسلمين تجاه النصارى بالقول: “مات يعقوب هذا الصعيدي المتمرد الذي كان صنديدا في الحرب، وله قلب كالصخر الجلمود، لا أنسى شجاعته والناس في حالة ذعر، حتى راحوا يزبدون، احتقنت الوجوه، وجحظت الأعين من الرءوس، حتى مات الكثيرون من الخوف، من أهوال ما لاقوا في الخرنفش وبين السورين والرملة، عندما ذبح الأهالي عبود بن إبراهيم صباغ العكاوي، على باب بيته، ونهبوا ما نهبوا، وقتلوا ما قتلوا، وأخذوا من بقي من نساء وبنات وأولاد عرايا إلى “وكالة ذو الفقار”، في خط الجمالية..” (الرواية، ص 63)
فضل يصور مذابح النصارى كأنها تفوق ما جرى للمسلمين في البوسنة والهرسك وسربرينتشا والروهينجا وسورية والعراق وأفغانستان وغزة وغيرها بطريقة ممنهجة. سوف نفترض أن هناك بعض الاشتباكات كانت رد فعل على الخيانة والقتال إلى جانب الفرنسيين، فهل توصف هذه الاشتباكات التي يمكن أن تحدث بين المسلمين أنفسهم أو المسيحيين أنفسهم بالمذابح؟
فتح لي يعقوب بابا آخر للخلاص
ولكن مات المعلم يعقوب قبل أن يعبر.. مات المعلم قبل أن نمر”. (الرواية، ص 65). هكذا يصف فضل مشاعره وموقفه من يعقوب، ولم يكن وحده من المتيمين به، وتحقيقه للحلم الطائفي بالاستقلال عن المسلمين، فقد تحدث آخرون عن يعقوب بشغف البحث عن هوية، ومنهم منصور بن حنين، الذي يقول عنه وقد أشرنا إلى بعض ما قاله من قبل:
“في الحقيقة كانت حكمته كبيرة، وليس حلما كما يعتقد البعض، لأن هذا لا يليق به فمثله لم يكن يعرف لغة الأحلام، هو رجل لا يعرف غير المال والحسابات والسيف، تناقص عدد الجنود الفرنسيين وعدم وصول إمدادات بشرية لهم، وثقتهم به، ومساعدته لهم في الصعيد، كل هذه الظروف وجد فيها فرصة لتحقيق ما حرمنا منه العثمانلية والمماليك فرصة أن يحصل على موافقة بتكوين فيلق تابع للجيش الفرنسي، فرصة أن يتدرّب شبابنا على يد أقوى جيش في العالم. كانت فرصة لن تتكرر. ستكون نواة لتأسيس جيشنا… سنملك القوة العسكرية التي انتزعوها منا سنوات وسنوات، القوة التي امتلكناها ربما مع الزمن تجعلنا قادرين حتى على محاربة الفرنسوية.
لكن رحل الفرنسوية أسرع مما تخيل يعقوب، لم يكن الوقت كافيا لنؤسس نواة قوية.
صمت منصور لوهلة، واستطرد قائلا بشجاعة لا تخلو من أسى: ورحل أيضا يعقوب أسرع مما كنت أتخيل. (الرواية، ص 73- 74).
وفي فرنسا ذهب فضل ومن معه من العسكريين إلى معسكرهم في مرسيليا، تحت قيادة الفرنسي فابيان الذي يشرح له ما هي الثورة والمقاومة الشعبية ومعنى الحرب والسياسة، ويتعرف على الكونتيسة التعيسة فرانسواز، أخت الجارية سعيدة التي كانت مملوكة لإبراهيم الألفي، واسمها القديم جين فلوري التي أعادتها الحملة المنسحبة إلى فرنسا، ومع تعلقه بالقائد فابيان، فإنه يعمل مع قائد آخر يدعى راب، يرى فيه قائدا ممتازا ومحاربا ماهرا. ويكتشف في مرسيليا بعد عدة آحاد أن الكنائس فارغة، ويوضح الكاهن الكاثوليكي أن الفراغ بسبب الثورة حيث تفشت بدعة العقول القوية وسخرية الناس من التقوى وعدم المبالاة بالدين في كل مكان، فيركز فضل على اتقان الفرنسية، ويعود إلى النجارة مع أحد الأسطوات بأجر زهيد في البداية يضطره إلى السكني في شارع معروف سكانه بأنهم أجلاف وصيّع وأنهم دهماء الثورة الذين أطاروا براس حارس الباستيل السويسري (الرواية، ص 110)، وتشغله عملية تجميع النصارى الموجودين في فرنسا وهو ما جعله يتنقل بين المدن المختلفة. فضل مسكون بهاجس الانتماء الطائفي ولاهوت التحرير والتطهر الإيماني، وشم الصليب على يده دليل على انتمائه بوصفه نوعا من المقاومة للمسلمين كما تزعم الطائفة، ويسطع ندمه وإحساسه بالإثم بعد مواقعة فرانسواز أو الكونتيسة التعيسة التي أغوته فاستجاب لها، ولم يحاول أن يكرر المحاولة، “الروح جريحة ولا ملجأ. الزناة لا يرثون ملكوت السواء، أنا خارج رحمة الله- يا ليتني هربت مثل يوسف وتركت ردائي”(الرواية، ص 157)، ومع أنه يتشدد في التمسك بإيمانه، فالناس في فرنسا يأخذون موقفا مغايرا، يهجرون الكنائس، ويتخلصون من رجال الدين، واستطاع الثوار أن يقتحموا كنيسة وذبحوا أحد رجال الإكليروس وشقوا بطنه وأخذوا أمعاءه فشنقوا بها أبا آخر. هل رفضوا الإيمان، أم رفضوا ما وقع عليهم من ظلم باسم الإيمان؟ (الرواية، ص 166). صار فضل مقربا من لوسيان الذي ائتمنه لوسيان على قلب منزوع من جسد، ويأمره بالحفاظ عليه ولا يعطيه إلا لمن يدافع عن حقوق المقهورين ويؤمن بالحرية والمساوة (الرواية، ص 170).
ظهرت موهبة فضل في معركة أوسترليتز، أبهرت من حوله ومنحه الإمبراطور نيشان صليب الليجون دونور مكافأة على دور فرقته في الحرب ضد روسيا بالجبل الأسود، وتمت الإشادة ببسالة الفرقة وشجاعتها وإقدامها. صار فضل من كبار القادة ويحمل رتبة الكولونيل وانضم إلى نادي الكبار مكانة ومنزلا وممتلكات وخيلا وبات نجما في حفلات باريس الفخمة، ولكنه أضحى يعاني ألما غامضا في معدته ينتقل إلى بقية بطنه، ولم يجْدِ معه العلاج. يشعر بالراحة عندما يمتنع عن الطعام. لقد عاف النساء، وأمسى ظهور أي امرأة في حياته يذكره بجسده الدنس (خطيئته مع الكونتيسة) ويستدعي ذلك الصوت الذي حاول أن يخرسه ولم يفلح (الرواية، ص 187- 190) .
أصبح فضل قريبا من الذين يقررون المصائر، وفهم دوره مع الفرنسيين سياسيا وعسكريا، هم يريدون القضاء على الدولة العثمانية، وهو يريد استقلال مصر عن الدولة العثمانية، ويتعاون مع الخونة الفارين (نمر أفندي، أنستازيا، منصور حنين، …) في إقناع الفرنسيين والإنجليز لمدّ يد المساعدة للمصريين البائسين من خلال بعض الوثائق الموقعة باسم الوفد المصري! ويعبر في أكثر من موضع عن حلمه بالعودة مع الفرنسيين بجيوشهم لطرد العثمانيين، (الرواية، ص 254)
قبل أن يتوجه فضل إلى محط النهاية وهو القتال في روسيا ينقل لنا من خلال لقاءاته مع بعضهم (فرانسواز) تصورات جديدة للإيمان ومفهوم العفة والخطيئة “خطيئة في حق النفس بتعذيبها وتجويعها، وخطيئة في حق الرب أن تعاند مشيئته في خلق مفعم بالرغبة، كيف يكون ما خلقنا الله عليه هو الخطيئة؟” (الرواية، ص 259) هل تريد الرواية أن تشير إلى انقلاب في مفاهيم فضل للإيمان قبيل ذهابه إلى القتال؟ بالتأكيد حدث الانقلاب في فرنسا التي غرقت في حرب شرسة مع “الجنرال ثلج” على مشارف موسكو، فاستحقت هزيمة ساحقة خسرت فيها نصف مليون مقاتل من بينهم فضل الحالم باستقلال مصر عن المسلمين وليس عن المستعمرين الفرنسيين والإنجليز. لقد وصف فضل المعركة مع الروس وصفا جيدا، وصور النهاية المريعة تصويرا شاملا وكأنه يقول: لم أحصل على عنب اليمن ولا بلح الشام، وهو مصير الخونة في كل زمان ومكان، وإن كانت الرواية تسعى لكسب تعاطفنا معهم تحت دعاوى هامشية ضد المسلمين وليست من الإسلام في شيء: اشمل يا نصراني، الأهالي المسلمون يقتلوننا، العثمانيون والمماليك أشرار وأكثر وحشية من الغزاة الفرنسيين!
العثمانيون لهم حضور اجتماعي وثقافي في مصر والبلاد الإسلامية حتى اليوم، ويا ويله من لا يخاطب الكبار في المجتمع المصري بلقب الباشا أو البيه أو الأفندي أو الهانم أوآبيه أو أنّا أو تيتا أو… ولكن الحلم الطائفي الشاذ يفرض أن يكون أشقاؤنا المسلمون من العثمانيين في خانة الأعداء، والغزاة الفرنسيون والإنجليز في خانة الأصدقاء المخلّصين الأحرار!
لقد حافظ العثمانيون والمماليك مع كل سلبياتهم على البلاد الإسلامية- واجه المماليك التتار والصليبيين وحرروا البلاد من حملاتهم المتتابعة، وتركوا آثار ا شاهدة عليهم حتى الآن، ولكن من قتلونا وذبحونا من الفرنسيين والإنجليز وفقا لرؤية فضل يجب أن يكونوا أداة للخلاص والاستقلال.. ما أعجبك يا فضل!