لله دركم جند «القسام»! تخوضون بحار المنايا؛ فتزدادون بأساً وقوة وشكيمة وعزماً، لا تبالون بعدو جمع لكم أعتى سلاح وأفتك عتاد وأشرس قوة، يتقدم أحدكم ويُلقي بنفسه في مهاوي الردى وكأنه البراء يختال في مشيته كأبي دجانة، مشتاقاً إلى الجنة كعمير، معتذراً إلى ربه عن تقصير المسلمين كأنس، رضي الله عنهم وأرضاهم.
أسر مُحيت من السجل المدني في غزة، ولكنها مثبتة في السجل الرباني المختوم؛ (أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران).
طوبى لمن يصدقون في طلب الشهادة في سبيل الله! عن معاذ رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سأل الله القتل من نفسه صادقاً، ثم مات أو قُتل فإن له أجرَ الشهيد»(1)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلب الشهادة صادقاً أُعطيَها ولو لم تُصِبْهُ»(2)، وعن سهل بن حُنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلَّغه اللهُ منازل الشهداء وإن مات على فراشه»(3).
أنفاق «القسام» تذكرنا بالخندق؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق؛ فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلما رأى ما بهم من النَّصب والجوع، قال: «اللهم إن العيش عيشُ الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة»(4).
إنها أيام التضرع والدعاء؛ عن عبدالله بن أوفى رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -في بعض أيامه التي لقيَ فيها العدو- انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس قال: «أيها الناس؛ لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»، ثم قال: «اللهم منزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم»(5).
علامات النصر
علامات نصر «حماس» والمقاومة واضحة لكل عاقل منصف عالم بما يدور:
– مغادرة آلاف الصهاينة منذ 7 أكتوبر الماضي وبلا رجعة والأعداد بازدياد.
– آلاف لا يذهبون إلى أعمالهم وانحطاط الاقتصاد الصهيوني.
– ينتظرون الآن انتفاضة جديدة بالسلاح والمتفجرات تنطلق من الضفة.
– وهذه كلها مؤشرات على زوال الكيان الغاصب.
صبراً أهل غزة.. لا حزن يدوم ولا سرور.. ولا ضعف يدوم ولا غرور.. ولا فقر يدوم ولا قصور.. الصحة لا تدوم والعافية تتقلب بين الظهور والأفول!
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139)، آلاف الصهاينة هاجروا وهم في خوف ورعب وفقر وفاقة وسيلحقهم رفاقهم تباعاً وهم يألمون!
انظر البشارة بالنصر والغلبة، ذكر الله المرسلين ثم ذكر جنده مباشرة فقال سبحانه: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات)، يا لها من بشارة عذبة تسكب في القلب أملاً، وفي الصدر انشراحاً، وفي النفس همة ورجاء، وفي الروح قوة واندفاعاً.
أيها المجاهدون والمدافعون عن غزة، تدبروا القرآن، وما أروع المقارنة بين سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقصة سيدنا يوسف عليه السلام التي سطرها قلم الإمام الندوي رحمه الله تعالى حيث يقول: «في هذه الأجواء القاتمة التي لا تثير أملاً ولا تبشر بمستقبل، ولا يُرى فيها وميض من النور، قصّ الله على رسوله قصة يوسف، وسيرته صلى الله عليه وسلم من أشبه السير به، وقصته مع قبيلته قريش كقصة يوسف مع إخوته، حسد ومحاربة في البداية، واعتراف وإجلال وندم في النهاية، وإبعاد وإقصاء، ونكران وجفاء في الأول، وخضوع والتجاء واستعطاف واستجداء في الآخر، وغيابة الجب في محنة يوسف، وغار ثور في رحلة محمد صلى الله عليه وسلم، وسجن في قصة ابن يعقوب، وشعب أبي طالب في قصة ابن عبدالمطلب».
ثم يقول: «وهكذا نزلت هذه السورة في جوِّ مكة الثقيل المظلم ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمستقبله العظيم المشرق الزاهر»(6).
طوبى للصابرين؛ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، يُصب عليهم الأجر والثواب صباً كما صُب عليهم البلاء والمصائب صباً، وتنهمر عليهم الكرامات والمواهب الربانية والأجور كما ينهمر عليهم الغيث العذب الزلال، طوبى للصابرين المحتسبين الثابتين هنيئاً لهم.
لقد حانت، بإذن الله، ساعة جلاء يهود عن فلسطين المباركة، وإنه جهاد نصرٌ أو استشهاد، والله أكبر ولله الحمد!
إِنَّ الَّذِي زَيَّفُوهُ كُلُّهُ كَذِبُ
مَا لِلْيَهُودِ بِدَارٍ أَهْلُهَا عَرَبُ!
وَلَوْ بَنَوْا فَوْقَهَا الْأَطْوَادَ شَامِخَةً
وَأَسْكَنُوا فِي حِمَاهَا كُلَّ مَنْ جَلَبُوا
فَفِي غَدٍ تُشْعَلُ النِّيرَانُ ضَارِيَةً
وَهُمْ وَمَا شَيَّدُوهُ فَوْقَهَا حَطَبُ
هَذِي فِلَسْطِينُ دَارُ الْعُرْبِ مَا بَقِيَتْ
مَا بَارَحُوا أَرْضَهَا يَوْمًا وَمَا ذَهَبُوا
هُمْ يَعْرِفُونَ وَمَا هَذِي بِخَافِيَةٍ
أَنَّ الَّذِي سَلَبُوهُ لَيْسَ يُسْتَلَبُ(7)
_______________________
(1) قال الترمذي: حديث صحيح.
(2) صحيح مسلم.
(3) صحيح مسلم.
(4) البخاري، ومسلم.
(5) البخاري، ومسلم.
(6) أبو الحسن الندوي، النبوة والأنبياء في ضوء القرآن.
(7) عبدالمنعم أحمد يونس، الانتصارات العسكرية في الشعر العربي، المصدر: مجلة الرباط الأدبي، العدد التاسع، ذو الحجة 1430هـ.