أرسل الله عز وجل رسله، وأنزل كتبه، وفصل شرائع دينه، لتحقيق العدل الشامل في كل مجالات الحياة؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية.. وغيرها؛ قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25)، وقال عز وجل: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (لنحل: 90).
ومن أجل تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية في الدولة المسلمة، أعلن الإسلام الحرب على الربا، وتواترت النصوص في القرآن الكريم، والسُّنة المطهرة، التي تنص على تحريم الربا، واعتبره الإسلام كبيرة من كبائر الذنوب المهلكات في الدنيا قبل الآخرة.
وفوائد البنوك واحدة من أوضح صور الربا التي حرَّمها الإسلام، وانتهت الأمة إلى الإجماع على تحريم فوائد البنوك، وصدرت عشرات الفتاوى بالتحريم من قبل المؤسسات العلمية، والمجامع الفقهية.
وبالرغم من هذا الوضوح في تحريم الربا، تخرج علينا بين الفينة والأخرى أصوات ضعيفة علمياً، مدعومة إعلامياً، تفتي بحِل فوائد البنوك؛ لأنها معاملة حديثة لم يرد فيها نص، وأن الأصل في المعاملات الإباحة ما لم يرد نص.
وسنزيد الصورة وضوحاً بذكر تعريف وتحديد العلماء لماهية الربا، وأنواعه، وماهية فوائد البنوك، ومن أي أنواع الربا هي:
تعريف الربا
1 – عرف الإمام الزجاج (ت 311هـ) الربا في تفسيره(1) فقال: الربا هو كل قرض يُؤخذ به أكثر منه، أو يَجر منفعة.
2 – أن يدفع أحدهم للآخر مالاً لمدة ويأخذ كل شهر قدراً معيناً، فإذا حل موعد الدَّيْن ولم يستطع المدين أن يدفع رأس المال أجَّل له مدة أخرى بالفائدة التي يأخذها منه، وهذا هو الربا الغالب في المصارف وغيرها ببلادنا، وقد حرمه الله تعالى على المسلمين وعلى غيرهم من الأمم الأخرى(2).
أنواع الربا
الربا نوعان: ربا النسيئة، وهو ربا الجاهلية، وربا الفضل.
وفي ربا النسيئة: قال الإمام النيسابوري في تعريفه: كانوا في الجاهلية يدفعون المال مدة على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً، ثم إذا حل الدَّيْن طالب المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل(3).
قال الجصاص(4) في تعريف ربا النسيئة: هو ما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل.
وربا الفضل هو بيع الشيء بجنسه متفاضلاً يداً بيد، مثل أن يبيع جراماً ذهباً بجرامين من ذهب يداً بيد.
حكم الربا
حكمه حرام بالكتاب والسُّنة والإجماع.
فمن الكتاب، وردت آيات كثيرة تدل على حرمة الربا، ومنها قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {275} يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {276} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {277} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) (البقرة).
ومن السُّنة، أحاديث كثيرة، منها:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ» (متفق عليه).
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ. (رواه مسلم، والترمذي، وأحمد).
وها هي فوائد البنوك تتطابق تماماً مع ماهية الربا، بل تتفق من كل الوجوه مع أسوأ أنواع الربا وأشدها حرمة وهو ربا النسيئة (ربا الجاهلية)، ويزيد الصورة وضوحاً ما ذكره علماء الاقتصاد في تعريف فوائد البنوك.
فوائد البنوك
يرى علماء الاقتصاد أن الفائدة عبارة عن زيادة ثابتة ومشترطة ومحددة سلفاً بنسبة معينة من رأس المال، والمتفق عليه بين علماء الاقتصاد: أنها الأجرة أو الثمن الذى يدفعه المقترض مقابل استخدام النقود، أو المبلغ الذي يدفعه المدين إلى رأس المال، وهي العائد لسنة واحدة، أو التعويض الذي يتقاضاه رب المال لقاء التأخير في الوفاء بالنقود(5).
فهذا هو تعريف فوائد البنوك لدى علماء الاقتصاد، وهو رصد وتصوير صحيح للواقع المشاهد والمحسوس في معاملات المصارف المالية المعاصرة، وهذا ما دفع علماء الإسلام للقول: إن فوائد البنوك مطابقة تماماً لماهية الربا المحرم، بل هي أسوأ من ربا الجاهلية، ولا يوجد أدنى فرق بين ماهية فوائد البنوك، وماهية الربا المحرم.
_________________________
(1) تفسير الزجاج (4/ 187)، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ/ 1988م.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة (2/ 222)، عبدالرحمن الجزيري (ت 1360هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1424هـ/ 2003م.
(3) تفسير النيسابوري (2/ 60)، تحقيق الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1416هـ.
(4) أحكام القرآن للجصاص (2/ 186)، أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي (ت 370هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ.
(5) تقويم التجربة المصرفية، د. عبدالحميد الغزالي، ود. عادل عيد، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1434هـ/ 2013م، ص 66 – 67.