لا يخلو قلب من الهوى، ولا يخلو مجتمع من جملة من الأخطاء التشريعية التي يجب معالجتها برفق وروية، وكم تركت المواقف التربوية السلبية آثاراً خطيرة على بعض المدعوين تقابل فيها بالعناد والإعراض والمزيد من الابتعاد عن الدين والقيم والأخلاق بسبب سوء التقدير في التعنيف أو محاولة الردع بأسلوب غير مناسب للنصح والمعالجة.
والمتابع للسُّنة يجد أن المعالجات النبوية لتلك الأخطاء والتعامل مع النفس الإنسانية تم من منطلق الحب والحرص على مصير الإنسان وبطريقة لا تتعارض مع كرامته، فالهدف أسمى ما يكون، والوسيلة لا تقل سمواً عن الهدف، ولذلك قال الله تعالى في حق نبيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران259).
وفي زماننا توجد الكثير من الأخطاء، سواء من العوام بارتكاب بعض المعاصي، أو من المربين الذين يحاولون علاج الأمر بوجه مكفهر، وغضب غير مبرر، ولذلك يحتاج الدعاة لدراسة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتعلم كيف يكون التعامل مع الأخطاء والمعاصي وأمراض القلوب كي تؤتي الدعوة أكلها.
وهناك جملة من القواعد يجب استيعابها أولاً قبل الخوض في حل المشكلة الأساسية:
الأولى: الإخلاص؛ وهو أساس قبول العمل، وسر نجاح الداعية، والله عز وجل أغنى الأغنياء عن الشرك، وقد يؤجر الداعية على عمل كانت نيته فيه خالصة لله عز وجل حتى ولو لم يكتمل، وقد يرد عملاً تم أداؤه كاملاً لكنه لم يكن خالصاً لوجهه الكريم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل أمرئ ما نوى..» (واه البخاري، ومسلم)، وقال الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: 5).
الثانية: كل بني آدم خطاء، وانطلاقة الداعية يجب أن تكون بوعي وحكمة وتواضع، لأنه لا يوجد على الأرض معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال: «كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ».
الثالثة: التفريق بين وضع المذنب المتعمد والمذنب عن جهل، فالتعامل مع الناس ليس على السواء، فالإنسان البسيط الذي لا يستطيع القراءة أو الكتابة، أو الجاهل بأمر دينه غير أن فطرته ما زالت صالحة، يختلف الحديث معه عمن علم الحكم الشرعي ثم هو يتطاول على حكم ربه ويرفضه ويتهكم عليه ويصر على الذنب، وأيضاً يختلف عن الذي يصر على الذنب لكنه نادم في كل مرة، حزين ألا يستطيع مقاومته، يأتي عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
كل هؤلاء لهم نوع من الحديث الدعوي يتلاءم مع قدراته النفسية والعقلية وذكائه الفطري، ومدى استعداده لتقبل الفكرة.
لكن الحديث كله يعتمد على الرفق والرحمة والمودة والحب له لا عداوته، كذلك مراعاة صاحب الذنب في حق البشر ورد الحقوق إلى أهلها، والذنب في حق الله وشريعته وعقيدته وحكمه، وعلى الداعية حين يعلم حقيقة معصية أحدهم، ألا يتتبع زلاته وعوراته بأي حجة، وعليه ألا يشهر به أمام الناس أو يلمزه، فعليه في الأساس كسب إنسان لا فضحه، وإنقاذه بالنصح الطيب واللين ليعود لا ليضيع.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفو عمن جهل عليه، فعن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فحبذه، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر بعطاء. (أخرجه البخاري).
منهاج النبي في تصحيح أخطاء المسلمين
1- المسارعة إلى تصحيحه: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت على خطأ رآه في وقته، وإنما كان يقوّمه في الحال، وهناك العديد من القصص التي وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابها فور وقوع الفعل، فعن عمر بن أبي سلمة يقول: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، فما زالت تلك طعمتي بعد. (رواه البخاري).
2- إظهار الرحمة به: يقول تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام: 54)، وعن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي نفسه أسماء فقال: «أنا محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة» (أخرجه مسلم).
وكان من نهج النبي عليه الصلاة والسلام الرحمة بالمذنب كي لا ينفّره من التوبة ويصرفه عن الإقبال على الله تعالى، فعن أبي هريرة قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: «ما لك؟»، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها»، قال: لا، قال: «هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين»، قال: لا، فقال: «فهل تجد إطعام ستين مسكيناً»، قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر، قال: «أين السائل؟»، فقال: «خذها فتصدق به»، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لأبيتها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: «أطعمه أهلك» (رواه البخاري).
3- النصح بما يضمن عدم تكرار الخطأ: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألا يقع الأذى ويمنعه في مهده، فعن أبي أمامة بن حنيف، أنه سمع أباه يقول: مرَّ عامرُ بنُ ربيعةَ بسَهلِ بنِ حنيفٍ وَهوَ يغتسلُ فقالَ: لم أرَ كاليومِ ولا جِلدَ مُخبَّأةٍ، فما لبثَ أن لُبِطَ بِهِ فأتيَ بِهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فقيلَ لَهُ: أدرِك سَهلًا صريعًا، قالَ: «من تتَّهمونَ بِهِ؟»، قالوا: عامرَ بنَ ربيعةَ، قالَ: «علامَ يقتلُ أحدُكم أخاهُ؟ إذا رأى أحدُكم من أخيهِ ما يعجبُهُ فليدعُ لَهُ بالبرَكةِ»، ثمَّ دعا بماءٍ فأمرَ عامرًا أن يتوضَّأَ فيغسلَ وجْهَهُ ويديْهِ إلى المرفقينِ ورُكبتيْهِ وداخلةَ إزارِهِ وأمرَهُ أن يصبَّ عليْهِ.
5- إنكار الخطأ لا المخطئ: المخطئ ليس عدواً للداعية، وإنما هو مسلم فعل بعض الصواب وبعض الخطأ، وعلى الداعية أن يقبل الصواب، ويدفع فقط ما يخص الخطأ وينهى عنه، فعن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بنى عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم «بدر»، إذا قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال صلى الله عليه وسلم: «دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين» (رواه البخاري).