لا يختلف مسلمان على أن إعادة نظام الخلافة الإسلامية إلى واقع المسلمين يعد فريضة شرعية وحاجة إنسانية وضرورة اجتماعية، حيث إنها تقدم للبشرية مثالا رائعا لتطبيق منهج الإسلام في دنيا الناس، إذ الخلافة هي الوسيلة الموضوعة لحراسة الدين وسياسة الدنيا به(1)، لكن التساؤل الذي يجب أن يأخذ حقه من البحث والتتبع هو: كيفية إعادتها وإقامتها في ضوء متغيرات العصر الحديث؟
هل تجب إعادة الخلافة بالصورة التي كانت عليها في التراث الإسلامي؟
إذا كان الهدف من الخلافة بصفة عامة هو العمل على وحدة المسلمين وتآلفهم وتعاونهم فيما بينهم في كل ما من شأنه أن يحقق لهم العزة والمنعة والأمن والأمان تحت مظلة واحدة؛ فإن السؤال هو: هل يلزمنا إعادة الخلافة من خلال الصيغة التقليدية في التراث الإسلامي، أم أن هناك في هذا الصدد مساحة من الحرية تتيح البحث عن صيغ أخرى بديلة يمكن أن تحقق الهدف المنشود على نحو يتناسب مع معطيات عصرنا ومتغيراته المتنوعة؟
إن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تتطلب إجراء دراسات علمية موضوعية نقدية عن الخلافة الإسلامية في مراحلها المختلفة، تعتمد على ثوابت الإسلام من ناحية، وحقائق التاريخ من ناحية ثانية، ومتغيرات العصر من ناحية ثالثة، فنحن لا نعيش وحدنا في هذا العالم الذي أصبح من التعقيد على جميع المستويات على نحو لم يكن يخطر على بال أحد(2).
إن التطبيقات الموروثة في تاريخنا الإسلامي العريق مختلفة في نظامها، فلا يكاد عصر يشبه عصراً، ولا نظام يشبه نظاماً، بل إن التطور التاريخي للدول الإسلامية يؤكد أننا لا يجب أن نجمد على صورة واحدة، بل نراعي أحوال عصرنا ومتطلباته.
وإن التمسك بالمنقول من الخبرات القديمة أو المسطور في كتب السابقين، وعدم الاستعداد أو القدرة على التخلي عن القديم، وعدم مراعاة الاختلاف في الزمان والمكان والحال والأشخاص، يؤدي إلى الوقوع في الخطأ؛ «فمن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل»(3)، وأكد الإمام القرافي هذا بقوله: الجمود على المنقولات أبدًا، ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين(4).
المبادئ الأساسية للخلافة الإسلامية
أكدت الدراسات الإسلامية المعاصرة أن الخلافة الإسلامية التي يفرض الإسلام على الأمة إقامتها وتذليل العقبات التي تعترضها تقوم على مبادئ ثلاثة، هي:
1- وحدة دار الإسلام؛ فمهما تتعدد أوطانها وأقاليمها، فهي دار واحدة لأمة واحدة.
2- وحدة المرجعية التشريعية العليا؛ المتمثلة في القرآن والسُّنة.
3- وحدة القيادة المركزية؛ المتمثلة في الإمام الأعظم أو الخليفة الذي يقود دولة المؤمنين بالإسلام، وليس معنى ذلك أنها ترفض غير المؤمنين بعقيدتها على أرضها.. كلا، إنها ترحب بهم، وتقاتل دونهم، ما داموا يقبلون أحكام شريعتها المدنية عليهم، أما ما يتعلق بعقائدهم وعباداتهم وأحوالهم الشخصية، فهم أحرار فيه، يجرونه وفق ما يأمرهم به دينهم(5).
هل يجب التمسك بالصيغة الموروثة للخلافة؟
إن فهم المبادئ الأساسية للخلافة والحرص على تطبيقها يجعل المجال مفتوحاً أمام المفكرين والسياسيين وغيرهم في طرح الأفكار والتصورات التي يمكن من خلالها تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع بما يساير التطور الزماني والمكاني للأمة الإسلامية.
ولا ينبغي أبدًا أن تقف العقول والأفهام عند الصيغة القديمة المتوارثة للخلافة بعد هذا التطور الرهيب، وخاصة أن القواعد الإسلامية العامة تؤكد أن الأمور بمقاصدها، وأن أي طريق أسفر به وجه الحق والعدل فثم شرع الله ودينه(6)، فلا مانع أن تظهر من الطرق المعاصرة ما يستوعب الفكرة ويجد لها حلولاً تتناسب مع المتغيرات الحديثة.
إمكانية الاستئناس بالصيغ المعاصرة للاتحادات البشرية
إن التفكير في الصيغ الجديدة لتطبيق المنهج الإسلامي في الحياة يستدعي اجتهادًا علميًا يستند إلى معرفة الماضي وإدراك الحاضر واستشراف المستقبل، ولا بأس بعد هذا من دراسة الصيغ الجديدة التي توصلت إليها أمم أخرى في عصرنا الحاضر، والتعرف على إيجابياتها وسلبياتها، ومدى تحقيقها للهدف المنشود، ومدى ملاءمتها في خطوطها العريضة للتطبيق العملي في العالم الإسلامي.
ومن التجارب العملية المعاصرة في هذا الإطار تجربة الاتحاد الأوربي، الذي استطاع أن يضم تحت مظلته دولاً أوروبية متعددة، وهي دول مختلفة القوميات واللغات، ونجح في إلغاء الحواجز بين هذه الدول، وأصبح المواطنون فيها يتمتعون بحرية التنقل والعمل والتجارة في دول الاتحاد التي أصبح لها عملة موحدة «يورو»، الذي ينافس الآن أقوى عملات العالم وهي الدولار.
وتشترك أوروبا مع الولايات المتحدة الأمريكية في أقوى تحالف عسكري في العالم، وهو حلف «ناتو»، الذي تشترك فيه تركيا أيضاً بوصفها دولة تنتمي إلى القارة الأوروبية، وتأمل أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي الذي يتحفظ الآن على قبولها عضواً فيه لأنها دولة إسلامية.
والاتحاد الأوروبي –كما قال بعض السياسيين الكبار فيه وهو المستشار الألماني الأسبق هلموت كول– يعد نادياً مسيحياً لا مكان فيه لبلد إسلامي(7)! وإننا بغض النظر عن قبول الاتحاد الأوروبي تركيا كعضو فيه أو منع ذلك، ننظر إلى التجربة في حد ذاتها، وهي تجربة استطاعت أن تجمع المتفرق من اللغات والأفكار والتصورات والعقائد والممارسات في إطار واحد من الوحدة والاجتماع بهدف تحصيل المصالح المشتركة.
وإن الناظر إلى الدول الإسلامية المتنوعة والمنتشرة في بقاع العالم، يجد أن عوامل وحدتها واجتماعها متوفرة، ولا يوجد بينها تنافر في شيء يحتم عليها التفرق أو التنازع، فهل يمكن أن تقوم الدول الإسلامية بتطبيق الفكرة الاتحادية بين دولها، لتكون صورة معاصرة للخلافة الإسلامية؟!
________________________
(1) الأحكام السلطانية: الماوردي، ص 5.
(2) هوامش على أزمة الفكر الإسلامي المعاصر- نظرة نقدية: د. محمود حمدي زقزوق، ص 50.
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن قيم الجوزية (3/ 66).
(4) أنوار البروق في أنواء الفروق: القرافي (1/ 177).
(5) من فقه الدولة في الإسلام: د. يوسف القرضاوي، ص 32.
(6) الطرق الحكمية: ابن قيم الجوزية، ص 31.
(7) هوامش على أزمة الفكر الإسلامي المعاصر، ص 52.