بالأسابيع الأولى للحرب كان موقف أنقرة في حالة ارتباك واختلاف عن مواقفها بالمواجهات السابقة
بعد أشهر انتقلت أنقرة نحو إجراءات عقابية تجاه «إسرائيل» بدأت بتقييد التصدير ووقف العلاقات التجارية
بعد توسع العدوان على لبنان بدأت النبرة التركية تتغير باتجاه استشعار تهديد أمنها القومي ومصالحها
طال العدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة بعد عملية «طوفان الأقصى»، في أكتوبر 2023م، وامتد لأكثر من سنة، وتوسع جغرافياً ليطال لبنان وحتى الجولان السوري، وخلال هذه المدة الطويلة زمنياً لحرب الإبادة على قطاع غزة تحديداً، تبدى ثبات نسبي في مواقف مختلف الأطراف ذات العلاقة، بينما كان هناك تغير نسبي وتطور مع الوقت في موقف تركيا، وهو موقف كان تكرر في السياسة التركية تجاه عدة ملفات أخرى في مقدمتها الثورات العربية.
في الأسابيع الأولى من الحرب، كان موقف أنقرة في حالة ارتباك واضحة واختلاف عن مواقفها في الحروب والمواجهات السابقة، فكان تركيز التصريحات الرسمية التركية على إدانة استهداف المدنيين، وضرورة إطلاق سراح الرهائن، ودعوة الطرفين لضبط النفس وعدم التصعيد، فضلاً عن إبداء الاستعداد لممارسة دور الوساطة.
من أسباب هذا الموقف المختلف أن الحرب أتت في سياق تطبيع العلاقات بين تركيا ودولة الاحتلال، وبعد أسابيع فقط من لقاء أردوغان، بنتنياهو، في الأمم المتحدة، والحديث عن ضرورة التعاون في مجال الطاقة والاقتصاد، وأيضاً بسبب قراءة تركية ترى أن عملية «طوفان الأقصى» تستهدف هذا التحسن في العلاقات، وقد تكون خلفه قوى أخرى غير المقاومة الفلسطينية مثل إيران.
لاحقاً، ومع بدء التوغل البري للاحتلال، وعلى وقع المجازر اليومية، وبسبب الضغوط الداخلية سياسياً وشعبياً، تطور الموقف التركي نحو تبني السردية الفلسطينية ورفض ادعاءات الاحتلال بالكامل، وتحميل نتنياهو المسؤولية الكاملة واتهامه بالإرهاب والحديث عن طي صفحة التعامل معه، ثم لاحقاً نحو تحميل المسؤولية لدولة الاحتلال نفسها بوصمها بـ«دولة الإرهاب» والدعوة لمحاسبتها.
ومع مرور الشهور، انتقلت أنقرة نحو إجراءات عقابية تجاه «إسرائيل» بدأت أولاً لتقييد تصدير بعض المنتجات لها (54 منتجاً)، ثم اتخاذ قرار بوقف كافة العلاقات التجارية معها، وصولاً لمشاركة دولة جنوب أفريقيا دعوى الإبادة المرفوعة ضد «إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية بعد 3 أشهر تقريباً من الإعلان عن هذا التوجه.
كانت التصريحات والقرارات المذكورة نابعة من موقف تضامني مع الفلسطينيين في غزة الذين يواجهون آلة الحرب «الإسرائيلية» ومخططات الإبادة الجماعية، لكن تطورات الأشهر القليلة الأخيرة وتحديداً منذ بدء التهديدات «الإسرائيلية» لـ«حزب الله» في لبنان دفعت أنقرة لقراءة مختلفة لمسار الحرب.
تحذير تركي
فمع إطلاق تلك التهديدات، حذر الرئيس التركي أردوغان من أن نتنياهو بعد جرائمه في غزة قد وضع نصب عينيه العدوان على لبنان، مشيراً لتبعات ذلك السلبية على الأمن والاستقرار في مجمل المنطقة، وقد كان لافتاً أن مسؤولين في دولة الاحتلال ردوا على تصريحات تركية شاجبة لحرب الإبادة بالهجوم على أردوغان وتركيا بل وتهديدهما، وقد كان التصريح الأبرز لوزير خارجية الاحتلال الذي حذر أردوغان من مصير صدام حسين الذي أطلق صواريخ على «تل أبيب»، وهو ما فهم على أنه تهديد لأردوغان كشخص بمصير الرئيس العراقي الأسبق (الإعدام) ولتركيا دولة بمصير العراق بعد ذلك (الاحتلال والفوضى).
توسع العدوان «الإسرائيلي» على لبنان وتواترت الاغتيالات وارتفعت احتمالات الغزو البري، وهو ما اتجهت له قوات الاحتلال لاحقاً مع تهديدات لعدة أطراف في المنطقة من اليمن للعراق ومن سورية لإيران بسبب الموقف من الحرب، هنا بدأت النبرة التركية تتغير باتجاه استشعار التهديد لتركيا وأمنها القومي ومصالحها وليس فقط التحذير من التصعيد في المنطقة.
مراراً، حذر مسؤولون أتراك في مقدمتهم أردوغان من أن الاحتلال سيعتدي بعد لبنان على سورية، وأن ذلك قد يشمل احتلال دمشق، وتحدثت بعض وسائل الإعلام التركية عن خطط للاحتلال للتوغل في الأراضي السورية وصولاً للحدود مع العراق لمنع طرق الإمداد لـ«حزب الله»، وفي أحد تصريحاته، كان أردوغان واضحاً في التعبير عن الخطر الذي قد يصل لحدود تركيا، مشيراً إلى أن القوات «الإسرائيلية» إذا استمرت بالتوغل قد تصل الحدود التركية في ساعتين ونصف ساعة.
وبالتناغم مع هذه التصريحات المتضمنة للشعور بالتهديد الذاتي، كان ثمة تصريحات كثيرة تؤكد معنى الجهوزية والقدرة على دفع الخطر، من بينها تصريحات رئيس أركان الجيش وكذلك بيان مجلس الأمن القومي التركي الذي أكّد التضامن مع لبنان حكومة وشعباً والوقوف إلى جانبه، بيد أن التصريح الأبرز في هذا السياق كان تذكير أردوغان بما فعلته بلاده في كل من ليبيا وجنوب القوقاز؛ أي التدخل العسكري إلى جانب كل من حكومة الوفاق الوطني الليبية وأذربيجان، ملمّحاً إلى احتمال فعل الأمر نفسه تجاه «إسرائيل»، ومؤكداً ضرورة أن نكون أقوياء لوقف العدوان.
ومن المؤكد أن أنقرة لا تنظر للعدوان «الإسرائيلي» في المنطقة بمعزل عن تطورات أخرى على الساحتين الدولية والإقليمية، بل تجمع إلى ذلك التطورات الساخنة والمتسارعة في الحرب الروسية – الأوكرانية، والتهديدات الصينية لتايوان، والأوضاع الاقتصادية في العالم، ومرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ما يفسر حديث وزير الخارجية خاقان فيدان عن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة بلاده مستعدة لها.
كان ذلك تغيراً ملحوظاً في قراءة أنقرة للتطورات في المنطقة ومخططات التوسع والعدوان «الإسرائيلية» التي عادت للحديث عن مشروع «إسرائيل الكبرى»، ودفعت هذه القراءة لتصريحات أكثر حدّة وأعلى سقفاً، بيد أن التوجهات والإجراءات العملية لم تتغير بنفس الوتيرة ولا الدرجة.
فعلى المستوى العملي، كان تصدير بعض البضائع مستمراً لدولة الاحتلال عبر أطراف ودولة ثالثة، وفق تقارير متواترة، كما لم توقف أنقرة تدفق الغاز الأذربيجاني لها عبر الموانئ التركية؛ الأمر الذي يساهم في تقوية اقتصاد الحرب «الإسرائيلي»، ولا يتوافق مع توصيف العدوان بحرب الإبادة والتحذير من الأخطار المحدقة بتركيا والمنطقة.
كما أن الرئيس أردوغان كان ذكر في عدة محطات عدم طرح فكرة قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية بالكامل مع «إسرائيل»، مكتفياً باستدعاء سفير تركيا في «تل أبيب» للتشاور وعدم إرساله مجدداً، بعد أن كانت الأخيرة سحبت سفيرها في تركيا وعدة دول بقرار منها بعد مجزرة المستشفى المعمداني خشية من ردود فعل شعبية فيما بدا في حينها.
هذا على صعيد العلاقات المباشرة مع الاحتلال، أمام في مواجهة الأخطار المحتملة، فثمة ما يمكن توقعه من أنقرة، منبثقاً من قلقها من توسع العدوان والتصعيد في المنطقة على الملف السوري عموماً وعلى الورقة الكردية فيه على وجه التحديد، إذ تخشى تركيا من بلورة كيان سياسي للمليشيات الكردية المدعومة أمريكياً في شمال شرق سورية في حال تمددت الحرب ودخلت القوات «الإسرائيلية» إلى سورية، خصوصاً إذا ما فاز ترمب بالرئاسة في الولايات المتحدة.
ولذلك، فليس مستبعداً في سيناريو من هذا النوع أن تلجأ أنقرة لتأمين قواتها المتواجدة على الأراضي السورية وحماية حدودها ومنع أي تطورات من قبل قوات سورية الديمقراطية (قسد) بتوسيع نفوذها في الشمال السوري، أو شن عملية عسكرية إضافية ضد قسد.
ما دون ذلك، فليس متوقعاً أن يطرأ تغير كبير وجذري على الموقف التركي من الحرب على غزة في الأفق المنظور، إلا تجاوباً مع استحقاقات حرب إقليمية موسعة (إن حصلت) قد تلامس بشكل أكثر مباشرة مصالح تركيا ومحددات أمنها القومي.