توحيد الله والوحدة عليه هما القاعدة التي تنبعث منها فلسفة الإسلام ونظمه وآدابه وجميع تشريعاته، والأمر جلي لا لبس فيه في قوله تعالى: (شَرّعَ لكُمْ مِنَ الدِينِ مَا وَصَّى بهِ نُوحًا وَالذِي أوْحَيْـَنا إَليْكَ وَما وَصَّيْـَنا بهِ إبـرَاهِيمَ وَموسَى وَعِيسَى أنْ أقيمُوا الدِينَ وَلا تـَتـفَرَّقوا فيهِ) (الشورى 13).
ولو أخذنا الأركان مثالاً لوجدنا التوحيد والوحدة نسيجاً واحداً في كل منها؛ فالشهادة تعني توحيد المعبود وهو الرب سبحانه وتعالى، وتوحيد المتبوع وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ترسم طريقاً واحداً وراء رجل واحد إلى مقصد واحد، ومثلها باقي الأركان، ولذلك كانت اللحظة التاريخية المثلى التي تم فيها الدين واكتمل، وفيها نزل قوله تعالى: (الَيـوْمَ أكْمَلْتُ لكُمْ دِيَنكُمْ وَأتْمَمْتُ عَليْكُمْ نعْمَتِي وَرضِيتُ لكُمُ الِإسْلَامَ دِيناً) (المائدة 3)، هي تلك اللحظة التي انتفى فيها الشرك بكل مظاهره كما انتفت فيها الفرقة بكل مظاهرها.
ولوجدنا التحذير منصبّاً في تلك اللحظة على الرجوع إلى أي مظهر من مظاهر الشرك أو الفرقة في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (متفق عليه)، أو قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الشيطان أيس أن يعبد في أرضكم هذه ولكن بالتحريش بين المؤمنين وفيما تحتقرون من العمل» (متفق عليه).
ولعل ربط التوحيد والوحدة في نسيج واحد لا انفصام بينهما في قوله تعالى: (أنْ أقيمُوا الدِينَ وَلا تـَتـفَرَّقوا فيهِ ۚ)، أو قوله تعالى: (وَاعَتصِمُوا بحَبْلِ الَّلِّه جَمِيعاً وَلا تَـفَرَّقوا ۚ) حكم رباني مسبق على كل جهد يذهب لإحياء أي شقّ على حساب الشقّ الآخر.
ولأن الوحدة تقع في هذه المكانة من الدين، ولأن أولى المسلمين بالاتحاد والاعتصام هم العاملون لاستئناف الحياة الإسلامية، فإننا نضع بعضاً من القواعد التي نرجو أن تشكل لبنة أولى في فتح باب التعاون بينهم، مروراً بالتحالف، وصولاً إلى الاندماج:
الأولى: الوحدة تكافئ التوحيد في الدين، والعمل عليها واجب كالعمل على التوحيد:
ثمة كثير من الجهود تُبذل في باب التوحيد بكل شِعَبه؛ اعتقاداً، وتزكيةً، وتعليماً، وجهاداً.. وهي في الغالب تقوم على أساسين:
1- بعضها مؤسس على معاني الدين العامة من صلاة وصيام وزكاة، متخففاً، إلا في بعض الحالات، من الإرث التاريخي بكل مشكلاته.
2- البعض الآخر مؤسس على خلاف ما، في باب من أبواب الدين (وقع في الاعتقاد، التربية، الفقه، السياسة..) يستدعي تلك الخلافات التاريخية، يؤسس عليها فكره وجهده ودفاعه، ولا يلاحظ أنه في سعيه هذا يخرق الشرط الثاني والوحيد في إقامة الدين، وهو عدم التفرق فيه.
فكل جهد يُبذل في باب التوحيد ولا يَصبّ في باب الوحدة فهو جهد ناقص لا بد من استكماله، فإن كان يصبّ في باب الفرقة والشقاق فلا بد من العودة عنه والتوبة منه وإعفاء آثاره، كي لا يكون سيئة جارية على صاحبها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
الثانية: المشاركة لا الاتباع:
حيث استوى الجميع مرتبة في الدين؛ «فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى» (رواه أحمد)، وأصبحت أعمال الجميع دون استثناء تدور بين الصواب والخطأ؛ «كل ابن آدم خطّاء..» (رواه أحمد)، فلا معصوم الآن لا ينطق عن الهوى، فلا مناص أمام الجميع إلا المشاركة على قاعدة «تكافؤ الجميع أصلاً وتمايز أصحاب الاختصاص كسباً»، وتكون كل دعوة للاتباع، وكل مرتبة فوق الاختصاص دعوة على صاحبها إعادة النظر فيها.
الثالثة: اللين لا الشدة:
نتشدد كثيراً في إظهار متبنياتنا الفكرية، وفي الاحتكام والمحاكمة إليها، ولأنها متبنيات في الدين فإننا –دون أن نشعر– نضفي عليها شيئاً من القدسية والعصمة، وهذا ما يعقب –تلقائياً– شدة في التعامل مع الآخر على ضوئها: فاللين له بمقدار قربه منها، والشدة عليه بمقدار بعده عنها، وتستفز الشدة في الفكر من طرف شدة مقابلة من الطرف الآخر، كما تستفز الشدة في المعاملة شدة مقابلة، وهكذا ينقسم المجتمع الإسلامي إلى فِرَق متشددة بعضها على بعض.
ولذلك، نلحّ هنا على نوعين من اللين:
1- اللين في الفكر، على قاعدة «قَوْلي وقولك ظني، قربهما من الصواب كقربهما من الخطأ».
2- اللين في العمل، على قاعدة «أذلّة على المؤمنين.. رحماء بينهم».
الرابعة: القرآن والسُنّة استناداً وميراث الأمة استهداء:
الجميع دون استثناء يستند إلى القرآن والسُّنة في حركته الدينية، ويرتكز عليهما في استقراره الفكري، ويتظلل بهما في اشتراعه العلمي والعملي، فيجعل التصديق بهما شرط الإسلام، والاستدلال بهما شرط الصحة والصوابية لأي عمل، ثم تختلف بعد ذلك التطبيقات، وتتعدد وسائل الإثبات والترجيحات، والكل دون استثناء يجعل الأمة بكل أفرادها المتميزين من أئمة وعلماء ومجتهدين تحت القرآن والسُّنة مكانة ومرتبة، فكفى بهذا أرضية مشتركة لبناء الوحدة الإسلامية.
الخامسة: الخلافات التاريخية تستدعى للاعتبار لا للاقتتال:
يجمع الجميع على أن من مات أفضى إلى ما قدم، وانقطع عمله إلا من ثلاث؛ (تلْكَ أمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبتْ وَلكُم مَّا كَسَبْـُتمْ ۖ وَلا تسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَـعْمَلُونَ) (البقرة: 134)، وأن عمله (سوءاً أو حسناً) هو وحده المسؤول عنه، وليس فضل الأسلاف يرفع الأخلاف، ولا سوؤهم يسوؤهم إلا بمقدار ما يستنّون بهم، سُنّة حسنة أو سيئة، فلا معنى لهذا الرجوع التاريخي إلا للاعتبار بالصالح اتباعاً، وبالطالح اجتناباً، خلا ذلك يصبح الأمر ضرباً من العصبية العمياء.
السادسة: المعالجة الداخلية والتصدي الخارجي:
ليس مقبولاً أن تشغلنا خلافاتنا الداخلية –ولو كان بعضها له وجه– عن ملاحظة هذا الخطر الخارجي الذي يستهدفنا بكل بنيتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، إذن أين قاعدة «الأهم فالأهم»؟ ولعل هذا الضغط الخارجي بكل أشكاله وصوره التي كثيراً ما تبلغ حد الإجرام يكون عاملاً رئيساً في توحيد أجزائنا، ورصّ صفوفنا، وتقليص المسافات بيننا، وهذا هو رد الفعل الطبيعي والمنطقي على ذلك، ولعل هذه المعركة المفتوحة علينا ستكون الكير الذي تنتفي فيه الكثير من عوامل الفُرقة والشقاق: (إنَّمَا وَلُّيكُمُ الَّلُّه وَرسُوُلهُ وَالذِينَ آمَنوا الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيـؤْتونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ) (المائدة: 55).
السابعة: الأحزاب والهيئات والجماعات الإسلامية مرحلة من مراحل الإحياء الإسلامي ينبغي تجاوزها إلى الوحدة:
انبرت الكثير من الشخصيات الإسلامية الموفقة لاستئناف الحياة الإسلامية في نواح وأساليب شتَّى، كان منها التجمع والانتظام وفق رؤية إسلامية حزبية (فيها من الخصوصيات الفكرية والظرفية الكثير)، حتَّى غدا هذا الشكل من العمل ظاهرة بارزة في الحراك الإسلامي، ومع ذلك لا يقول أهلها أنها غاية مقصودة بذاتها بمقدار ما هي طريقة من طرق الإحياء الإسلامي وأسلوب من أساليبه، فالمطلوب أن نتجاوز هذه المرحلة التي كان لها أسبابها وأهدافها ونتائجها (إبراز الفكرة الإسلامية وتثبيتها في ساحة التدافع العام) إلى عمل وحدوي أو جبهوي يزيد من الكسب الإسلامي على الساحة التدافعية، ويقع موقع القبول والالتفاف من الجماهير النائية عن المشروع الإسلامي.
نرى أن ذلك واجب شرعي، تأسيساً على الأمر بالوحدة، وتيمناً بما وعدت به الجماعة من التوفيق والتسديد؛ «يد الله مع الجماعة، الجماعة رحمة والفرقة عذاب»، وأن نداء الوحدة واجب الاستجابة كنداء التوحيد.