إبراهيم حسب الله (*)
_______________________
الكويت بلد طبع على الخير حتى من قبل ظهور النفط والخيرات التي أنعم الله بها على الكويت وأهله وأصحاب الأيادي البيضاء والمكرمات التي وصلت شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا تحدثًا وأداء لحق الله سبحانه في مساعدة الفقراء والمحتاجين، وإقامة المشروعات وبناء المساجد والمنشآت الطبية والتعليمية في بلدان كثيرة، ولم يكن هذا بتوجه سياسي أو حزبي لعدم وجود شبهة هذه التوجيهات على الساحة في تلك الفترة، وإنما كان خالصًا لوجه الله تعالى وعلى الفطرة الكويتية الخيرة.
وفي الوقت نفسه كانت الأعمال الخيرية والتكافل النابع من مجتمع الكويت المسلم بطبعه الحريص على إرضاء ربه والارتباط الأسرى والقبلي الذي يتم من خلاله كثير من جهود الاكتفاء الذاتي وسد الاحتياجات التي تنشأ على مستوى أفراد العائلة أو القبيلة بصورة تلقائية، كل ذلك كان كافيًا لمواجهة الاحتياجات المتجددة.
ثم جاءت حقبة الوفرة التي تولت فيها الدولة تلبية كافة الاحتياجات من بنية أساسية إلى خدمات وصلت حد الرفاهية والكماليات، وامتدت الوفرة بحمد الله إلى الأفراد والقطاع الأهلي واستمرت طبيعة الخير ولم تفتنها إقبال الدنيا وكان من الطبيعي أن تتجه إلى خارج الكويت، حيث تولت الدولة تغطية احتياجات الداخل، وأصبح من غير المنطقي أو المقبول أن يقوم القطاع الأهلي والخيري، بإقامة منشآت تزيد عن الحاجة لمجرد التظاهر بتحقيق شعار الأقربون أولى بالمعروف حيث يكون الأقربون في غير حاجة المعروف سوى الكلمة طيبة.
ونعلم أن في جميع الدول تكون العلاقة بين القطاع الحكومي والقطاع الخيري هي علاقة تكامل ديناميكي أي دائم التطور والتغيير، ويقوم القطاع الخيري باستمرار بتجديد دوره تبعًا لدور القطاع الحكومي، وهذا واضح بصورة جلية في المجتمع الأمريكي طوال فترة تاريخه الحديث والمعاصر.
ويساعد في وضوح هذه الصورة توافر البيانات والإحصاءات ووجود المعاهد والدراسات التي تتناول ذلك، ومثال على هذا الاستشهاد ما أوردته:
نشرة «F.R.M» الأسبوعية وهي نشرة خاصة بجمع التبرعات للمؤسسات الخيرية التي تصدر بالولايات المتحدة (10 أبريل 1996م) ورد فيها أن سارة ميلانديز، رئيسة القطاع الأهلي المستقل، في شهادة لها أمام الكونجرس (لجنة العمل والموارد البشرية – واللجنة الفرعية للأسرة والطفولة) قالت إن تحليلاتنا تعكس أن التبرعات الخاصة لابد أن تزيد عن معدلاتها التاريخية، وذلك لتسد الفجوة التي ستنشأ بسبب ضغط الإنفاق للحكومة الفيدرالية والنقص المقترح في الميزانية الفيدرالية المقبلة، وتوقعت السيدة سارة أن تزيد التبرعات في عام 1997م بنسبة 50% وتصل إلى 174% في عام 2002م، ثم تمضي السيدة سارة في تحديد المبالغ التي يلزم بذل الجهد لزيادة جمعها ومقارنتها بالعجز الناشئ عن ضغط الإنفاق الحكومي حتى لا يتأثر المجتمع ككل بنقص الخدمات، ويقوم القطاع الخيري بسد النقص في هذه الخدمات كما أن في كثير من الدول خاصة المتقدمة منها تشمل الخطط الاستراتيجية والمرحلية دور القطاع غير الحكومي والخيري في التنمية والخدمات كجزء لا يتجزأ من الخطة العامة، وكذلك المتتبع للخطط الاستراتيجية والمرحلية للمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة أو المنبثقة عن التكتلات العالمية أو الإقليمية، والمتتبع لاجتماعات هذه المنظمات في الفترة الأخيرة مثل اليونسكو والتغذية والزراعة وصندوق التنمية الزراعية ومنظمة العمل واليونيسف والإيسيسكو والاتحاد الأوروبي وغيرها، يلاحظ الدور المتنامي الذي يلقى على عاتق المنظمات غير الحكومية والخيرية لحل مشاكل العالم التي عجزت هذه المنظمات والدول عن القيام بها وحدها، حيث تقوم المنظمات الكنسية والدينية غير الإسلامية على اختلافها ضمن المنظمات غير الحكومية والخيرية بالمشاركة في الأنشطة في كافة الدول وعلى كافة المستويات، وفي كافة المجالات بما في ذلك كثير من الدول العربية والإسلامية، ويتم التعاون بينها وبين المنظمات والهيئات الأخرى بما في ذلك الإسلامية وغير الدينية، ولا نسمع من يطالب بالتخلص من هذه المنظمات أو عرقلة أعمالها خاصة من المنتمين لديانات هذه المنظمات أو التحذير منها أو التحريض عليها أو تشويه قياداتها.
وتحرص هذه المنظمات على إبراز هويتها سواء في المؤتمرات أو المناسبات أو حتى من خلال أنشطتها، بل وتحرص في كثير من الأحيان على ربط خدماتها بقيمها الدينية، علما بأن هذه المنظمات والهيئات قد تمثل عشرات الطوائف والمذاهب والنحل التابعة لديانة واحدة دون أن يتسبب ذلك في اتهام بعضها بعضًا أو تشهير الكتاب والإعلام بها.
وهذا هو السلوك الحضاري الذي نرجو أن يسود.. كما أن المطلع على المجتمع الأمريكي مثلًا يعلم أنه في فترة سابقة كانت معظم الأعمال الخيرية تتجه إلى خارج أمريكا وما زالت، ولكن هناك اهتمام مواز بدأ يظهر وينمو بالمجال الداخلي وما زال الاهتمام الخارجي في نمو وازدياد منًا وحجمًا.
وهذا ما نلاحظه في العمل الخيري في الكويت فالاهتمام بالمساعدات الخارجية موجود وقديم ومستمر، ولكن اهتمامًا بالعمل الخيري الداخلي بدأ يظهر وينمو كما هو حاصل في المشروعات المحلية التي تقوم بها جمعية النجاة الخيرية ولجانها ومدارسها، وجمعية الإصلاح الاجتماعي وفروعها ولجانها المتخصصة.
وجمعية إحياء التراث الإسلامي بفروعها ولجانها ومشاريعها الخيرية وأطرح مثالًا على ما تقدمه الهيئة الخيرية من تقديم شتى أنواع المساعدات في الداخل وفي كافة المجالات الخيرية والتنموية.
ويتوقع أن يزيد هذا الدور فالهيئة مثلًا تبدي تفاعلًا مع التغيرات والتطورات التي تطرأ على المجال الداخلي والخارجي تكيف خططها، وهي بصدد بلورة خططها وأنشطتها لتواجه المتطلبات المحلية إلى جانب المسئولية العالمية الملقاة على عاتقها وفق المرسوم الأميري الذي حدد هذه المسئولية، كما أن لجانها وفروعها تحقق التنوير المطلوب، فمثلًا جهود لجنة ساعد أخاك المسلم في كل مكان أثمرت عن مدرسة الرؤية التربوية ولجنة مسلمي آسيا حددت تخصصها ومجالاتها.
ولا ندَّعي أن ذلك قاصر على الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، ولكن يشمل كافة الهيئات واللجان العاملة في الكويت التي تمر بنفس المرحلة وتطور أنشطتها وخطتها، وهو تطور طبيعي وضروري وحتمي ليس في الكويت وحدها، ولكن في كافة المجتمعات المدنية.
وفي حين أن هناك صيحة عالية ومدوية في معظم الدول المتقدمة والنامية على السواء لزيادة دور المؤسسات غير الحكومة والخيرية والمدنية وقيامها بدور أهلي فعال ومتزايد الأهمية والحجم، فإن من الغريب أن تنادي بعض الأصوات بتقليل دور الهيئات الخيرية وتقليص أنشطتها ووضع العراقيل أمامها وإثارة الشبهات عنها، فإن ذلك يعتبر ضد الاتجاه الذي يسود العالم الآن ويبدو استثناءً للقاعدة، ويبدو ذلك أكبر غرابة بالنسبة للكويت بالذات وهي الرائدة في مجال الخير، والتي يمثل أميرها قمة الخير في العالم حيث اختير الشخصية الخيرية لعام 1995م واختير ابنها البار د. «عبد الرحمن السميط»، ليحصل على جائزة الملك فيصل العالمية للعمل الخيري، واختير رمز من رموز الخير فيها الشيخ «يوسف جاسم الحجي» أحد شخصيات العمل الخيري التطوعي في الكويت عام 1995م.
فلتفخر الكويت برصيد الخير فيها وتحمد الله -سبحانه- على هذا الفضل وتسعى للمزيد إن شاء الله(1).
_______________________
(1) نشر في العدد (1208)، 30 صفر 1417هـ/ 16 يوليو 1996م.
(*) مدير عام الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية.