سطر كثير من أبطال غزة صورًا كثيرة من الكفاح والنضال المستمر في منذ بدء عملية «طوفان الأقصى» الذين تتبعهم الاحتلال بأثرهم الكبير في فلسطين، وقتلهم ليغتال سيرًا عظيمة بقتلهم، كل منهم يقاوم على طريقته فمنهم من حمل سلاح العلم أو الطب أو القلم، ومنهم من قاوم في جبهة الطب، وآخرون سطروا كتبًا وقصائد يصفون فيها حال الشعب الفلسطيني.
جبهة الطب
الأطباء أيضًا سطروا قصصًا بطولية منذ بدء الحرب الشعواء التي شنت على قطاع غزة، مثل د. إياد الرنتيسي، الذي كان رئيس قسم النساء والولادة في مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة.
فمنذ 7 أكتوبر 2023م لم يعد الرنتيسي إلى بيته، حيث بقي على رأس عمله في ظل الظروف القاسية التي تأتي بها النساء الحوامل إلى القسم، فقد كان يرهقه عدد العمليات التي تكون على عاتقه كل يوم، ولكنه بقي مصرًا ألا ينزح إلى جنوب غزة قائلًا: «لن نبرح غزة.. إما النصر أو الشهادة».
وبعد 40 يومًا من شن حرب الإبادة على قطاع غزة، اقتحم جيش الاحتلال مستشفى كمال عدوان برًا واعتقل أكثر من 7 أطباء وعشرات النازحين هناك.
بين الحين والآخر كان الصليب الأحمر ينشر قوائم لأسماء أسرى تم الإفراج عنهم، وكانت تتطلع عائلته مع كل قائمة أن يكون د. الرنتيسي من ضمن القوائم المفرج عنهم، ولكن في كل مرة كانوا يشعرون بالغرابة لأنهم لم يجدوا اسمه!
لتفاجأ عائلته بعد 7 شهور بنشر خبر مفاده: «قتل د. إياد الرنتيسي منذ 7 أشهر تحت التعذيب»، وذلك بعد 6 أشهر فقط من اعتقاله، في مركز تحقيق صهيوني تابع لجهاز الأمن الداخلي (الشاباك) في عسقلان.
فجعت العائلة بذلك الخبر وتساءلوا استنكاراً: ما ذنب د. الرنتيسي إلا صموده شمال غزة، ورفضه النزوح الذي فرضه المحتل الغاشم، ووقوفه في قلب الجبهة الطبية؟ فلم يأخذ استراحة محارب حتى منذ بدء العدوان على قطاع غزة، وفي نهاية اليوم يستند إلى حائط في ممر المشفى إن وجد حيزًا فارغًا، وذلك بعد أن امتلأ المستشفى بمئات النازحين الذين اتخذوا من ممرات المشفى مأوى لهم بعد فقدانهم بيوتهم بالقصف والهدم.
صمود وثبات
د. يسرى المقادمة، نموذج آخر ممن وضعوا بصمات بطولية خلال حرب الإبادة على غزة، وهي التي كانت قبل الإبادة معلمة رياضيات ناجحة وملهمة في مدارس «الأونروا» بغزة، كما كانت عضوًا في قسم عمليات الإيواء منذ 7 أكتوبر 2023م، فتحولت وظيفتها إلى تحضير احتياجات النازحين في مراكز الإيواء شمال قطاع غزة.
رفضت المقادمة مغادرة غزة، وبقيت تقدم الخدمات النفسية للنساء والأطفال الذين اشتدت عليهم آثار الحرب، كما كانت ترشد العائلات النازحة وتعينهم نفسيًا وماديًا.
فرص كثيرة كان بإمكان يسري ترك غزة لكنها آثرت البقاء فيها بل وأصرت عليه، ومن مقولاتها: لن أترك غزة حتى لو لم يبق أحد غيري.
كان برفقة د. يسرى شمال غزة ابنها د. أحمد المقادمة، الذي له أثر كبير في كل الحروب التي شنت على غزة على مدار السنوات الأخيرة، فهو متخصص في جراحة التجميل، ويعمل في قسم الحروق بمستشفى الشفاء.
حاز د. المقادمة زمالة الابتكار الإنساني من الكلية الملكية للجراحين في إنجلترا، وكان يرى في مهنة الطب جهادًا وشكلًا من أشكال المقاومة على أرض فلسطين، بينما ترى والدته أن عملها في خدمة النازحين رباط في سبيل الله.
لأكثر من 6 شهور لم ير د. المقادمة زوجته وطفله الذين ينزحون إلى جنوب غزة، وآثر خدمة أبناء وطنه بالعلم الذي درسه في الخارج، بينما حرص على توثيق أغلب العمليات التي يقوم بها، ليكون أرشيفًا محفوظًا لزملائه من طلاب الطب، وفي الوقت ذاته يرسلها إلى أطباء كبار لديهم خبرة أكبر منه، حتى يستفيد من علمهم لا سيما أن تخصصه يتطلب الدقة والحرص بدرجة كبيرة.
كان د. المقادمة ينزح مع والدته في مجمع الشفاء الطبي بعد قصف البيت الذي استأجراه، فنزحا في مستشفى الشفاء، ومع بداية شهر مارس اقتحم جيش الاحتلال المستشفى وحاصرها حصارًا خانقًا، وأجبر مئات النازحين فيها، من بينهم الطبيب المقادمة ووالدته، لكن جيش الاحتلال غدر بالنازحين قبل أن يصلوا إلى مكان النزوح الجديد، فقنصوهم واحدًا تلو الآخر؛ فارتقى المقادمة ووالدته برصاصات القناص الغادر شهداء بعد أن كان لهما أثر كالفراشة لا يرى، لكنه أبدًا لن يزول!
قلم مقاوم
ولأن الفلسطينيين قاوموا بكل ما يمتلكون، فقد قاومت الكاتبة الروائية الفلسطينية آمنة حميد بقلمها، فهي صاحبة التدوينة المؤثرة: «لم أكن أبدًا من أولئك الذين يترددون أو يطأطِئون رؤوسهم أو يتراجعون أو يتلعثمون، ولن يوقفني شيء عن التمسك بقدسية الأسرار وحمل وتوصيل الرسالة التي أدركتها بعمق منذ نعومة أظفاري».
كانت الأديبة آمنة حميد قد قررت عدم ترك غزة ورفضت نزوحها من غزة، كما شهدت صفحات المجلات والصحف كثيرًا من كلماتها ومقالاتها وشعرها ونصوصها الأدبية عن فلسطين والقدس والشهداء والأسرى.
تخرجت حميد في كلية الصحافة من الجامعة الإسلامية عام 2016م، وأكملت دراسة الماجستير في جامعة الأقصى، كما تعمل ناشطة اجتماعية تدافع عن حقوق المرأة والطفل الفلسطينيين.
أنشأت في بداية حرب الإبادة هي وزوجها الصحفي سائد حسونة منصة «حكايا من غزة» للكتابة عن الشهداء وأحلامهم المقتولة وأمنياتهم التي تدفن قبل أن ترى النور، ووثقت كثيرًا من قصص ضحايا الحرب على قطاع غزة.
في بداية ديسمبر، اقتحم جيش الاحتلال منزلهم وفرقها عن زوجها وأجبروه على النزوح إلى جنوب قطاع غزة وحده، أما هي فبقيت صامدة هي وأطفالها شمال غزة.
صورت حميد منتصف مارس مقطعًا مع عدة صحفيين يتحدثون فيه عن الانتهاكات بحق الأطفال والمدنيين في غزة، بثته «القناة 14» العبرية، مع دعوى للتحريض ضد الصحفيين، وبعد بث الفيديو بشهر واحد قصفوا البيت الذي تنزح إليه حميد وأطفالها، ورحلت شهيدة برفقة ابنها البكر إلى السماء دون أن يودعها زوجها، تشكو لله الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، بينما أصيب أطفالها الأربعة إصابات خطيرة.
كاميرات مستهدفة
أما الصحفي المصور حمزة الدحدوح، فقد ارتأى أن يكون مقاومًا بالصورة التي ينقلها للعالم راصدًا جرائم ومجازر الاحتلال، ففي خيمة الصحفيين مكث مائة يوم حتى بعد فقده لأمه وإخوته منذ الأيام الأولى لحرب «طوفان الأقصى»، وبمجرد سماع أحداث ومجازر في منطقة معينة يسارع للوصول إليها ليرصد وحشية وعنجهية المحتل.
وفي بداية الشهر الرابع للعدوان على غزة، انطلق الدحدوح برفقة زميله مصطفى ثريا إلى خان يونس لتوثيق مجزرتين ارتكبهما الاحتلال بقصف بيوت على رؤوس ساكنيها، وفي طريقهما باغتهما صاروخ من طائرة حربية فتت جسديهما وحرق السيارة التي كانا يستقلانها ليرحلا شهيدين ثمنًا للحقيقة، بينما أكمل زملاؤهما الصحفيون من بعدهما مشوار كشف الجرائم، فقد كان الاحتلال يخشى من العدسات التي ترصد المجازر وتبثها للعالم الخارجي، حيث قتل أكثر من 187 صحفيًا منذ 7 أكتوبر 2023م.
شخصيات كثيرة اغتال الاحتلال الغاشم مشوارهم وأوقف مسيرتهم، لكنهم بقوا أيقونات للتضحية والصمود، فقد قدموا أرواحهم فداء لـ«الأقصى» وفلسطين، وظل أثرهم باقيًا في طريق النصر والتحرير كالأطباء والفنانين والأساتذة والأكاديميين والمهندسين والأئمة والدعاة والشعراء والمثقفين والأدباء.