المباحث العقدية عادت عند كثير من الناس مجرد جدل كلامي ومناظرات، بل هي عند آخرين سيفٌ مُصْلَت لتجريح المسلمين والإساءة إليهم أحياء وأمواتاً بالتكفير والتضليل والتفسيق، حتى أضحت كلمة «العقيدة» -في أذهان كثيرين- مقرونة بسوء الظن وقلة الأدب وسلاطة اللسان؛ حتى جاءت «طوفان الأقصى» لتجعل من تلك المباحث دروساً عملية وأحداثاً مشاهدة لا تحتاج إلى كثير كلام، ومن ذلك:
أولاً: ازداد المؤمنون إيماناً بأن القرآن كلام الله من فوق سبع سماوات، وذلك حين سمعوا آيات القرآن تصف جبناء عصرنا، ممن كفُّوا أيديهم أن تمتد بخير إلى إخوانهم في الأرض المباركة، وكفُّوا ألسنتهم عن مناصرتهم ولو بالدعاء؛ (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) (الأحزاب: 20)، (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: 4).
وكذلك حين رأوا بعض مرضى القلوب ممن طالت لحاهم يتناولون المجاهدين بألسنة حداد؛ حتى حُق للقائل أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة! يقول سبحانه: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) (الأحزاب: 19).
ثانياً: قتلت «طوفان الأقصى» عقيدة الجبن عند كثيرين؛ حين رأى جمهور المسلمين ألفاً وثلاثمائة من المجاهدين يوم السابع من أكتوبر يقتحمون الأراضي المحتلة ويسيطرون على مستوطنات، ويأخذون أكثر من 200 أسير صهيوني؛ فعلم الناس أن أوهاماً قد خيَّمت في أذهانهم زماناً طويلاً، وأن الصهاينة ليسوا إلا جبناء كما وصفهم ربنا في كتابه: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: 96)، (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ) (الحشر: 14)، فتحررت الأمة من كثير من أغلال التبعية التي زرعتها الآلة الإعلامية الصهيونية، ورسختها أنظمة القهر والاستبداد الجبانة التي تحكم عالمنا الإسلامي، وما أقبح حال الجبان الذي وصفه الشاعر بقوله:
إذا صوّت العصفورُ طار فؤادُه وليثٌ حديدُ النّابِ عند الثّرائد
ثالثاً: رأى المسلمون في أهل غزة ما كانوا يقرؤونه في النصوص النبوية؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» (رواه البخاري)، حيث حاز أهل غزة ذلك الفضل؛ إذ ليس على وجه الأرض -فيما نعلم- قوم كأهل غزة بذلوا لله كل شيء من أموالهم وأنفسهم وأولادهم وأزواجهم وآبائهم وأمهاتهم وعشائرهم؛ فضلاً عن المساجد التي هُدّمت، والمدارس التي قُصفت، والزروع التي جُرفت، والبيوت التي دمّرت، مع فقد الأموال والأنفس والثمرات، وأكثرهم إما جريح أو شهيد أو أسير أو مهجَّر.
رابعاً: التوكل على الله ظهر جلياً في تلك الأحداث؛ (وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 12)، تعريف التوكل يصدق تماماً على أولئك المجاهدين الأبرار، وعلى حاضنتهم الاجتماعية من أهل غزة الأخيار؛ حيث قال أهل العلم في تعريفه: هو الثّقة بما عند الله واليأس عمّا في أيدي النّاس! ألا ترى أهل غزة قد نفضوا أيديهم من الناس جميعاً، واثقين بما عند الله من فرج ويسر وجنة ونعيم؟ أليس أهل غزة قد خُذِلوا من القريب قبل البعيد؟ أليس أكثر الناس مشغولاً عن مأساة غزة بمطعمه ومشربه ووظيفته وأهله وعياله وملاهيه وملاعبه؟ بلى هذا حال أكثرهم.
إنهم أخذوا بالأسباب وأعدوا العدة وربوا جيلاً لا يعرف ناصراً غير الله عز وجل، وبعد ذلك فوّضوا الأمور إلى الله الذي يعلم السر وأخفى؛ قال الهروي في المنازل: والتّفويض ألطف إشارة، وأوسع معنى من التّوكّل، والتّوكّل يكون بعد وقوع السّبب، أمّا التّفويض فإنّه يكون قبل وقوع السّبب وبعده، والتّفويض هو عين الاستسلام، أمّا التّوكّل فهو شعبة منه.
خامساً: تجددت معاني الولاء والبراء عند الموفَّقين من عباد الله؛ حين رأوا أمم الكفر تتداعى لنصرة الكيان الصهيوني، داعمة إياه بالسلاح والمال والرجال؛ مصداقاً لقوله تعالى: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (الأنفال: 73)، فعلم الناس أن موالاة أهل الكفر –التي ولغ فيها كثيرون– لن ينالوا منها خيراً في دنياهم ولا آخرتهم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ {1} إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (الممتحنة).
ورأينا اهتمام المسلمين من طنجة في المغرب إلى جاكرتا في المشرق بما يقع لإخوانهم في الأرض المباركة؛ حيث ضجَّت المنابر بالدعاء لهم، وتتابع الأخيار في الجهاد معهم بأموالهم، وودَّ كثيرون لو تيسر لهم الجهاد بأنفسهم؛ وعلت الدعوات لمقاطعة الشركات والمؤسسات الداعمة لأعدائهم؛ وتتابعت بيانات أهل العلم في بيان الأحكام الشرعية في تلك الأحداث
سادساً: أدرك الناس خطر المنافقين وما ينطوون عليه من خباثة المعتقد وفساد الديانة؛ وتمثل ذلك في فئة الحكام الظلمة الذين لا يرجون لله وقاراً؛ حيث جعلوا من هذه الأحداث سبيلاً لتصفية الحسابات فيما بينهم ونيل المكاسب الدنيوية الوضيعة والتآمر على المسلمين؛ وإسداء الخدمات لأهل الكفر؛ وإظهار المودة لهم؛ وذلك رغبةً منهم في القضاء على كل حركة إسلامية جهادية تقود الأمة في الاتجاه الصحيح.
وفئة أخرى -من حملة الأقلام وأصحاب القنوات- تمالئ العدو وتزوِّر الحقائق وتثبط الهمم وتقتل العزائم مشتغلة بسفاسف الأمور، فهتك الله بذلك أستارهم وأظهر سوءاتهم؛ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ {29} وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (محمد)، وكما قيل:
جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
وما أصدق كلام ابن القيم في وصف حال هؤلاء: يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد، فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟ وكم من عَلَم له قد طمسوه؟ وكم ضربوا بمعاول الشُّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سريّة بعد سريّة، يزعمون أنهم بذلك مصلحون؛ (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (البقرة: 12).
سابعاً: ازداد أهل الإيمان حباً للصحابة الكرام عليهم من الله الرضوان؛ حين رأوا في أولئك المجاهدين الأبطال في غزة صورة من أولئك الصحابة الذين كانوا يقرؤون سيرتهم ويسمعون أخبارهم؛ حيث رأوا رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفقدوا، مجهولون في الأرض، معروفون في السماء لا يعلمهم إلا الله! ثيابهم مرقوعة ونعالهم مخصوفة، بل بعضهم بلا نعل، وسلاحهم يسير، كانوا يقرؤون عن جيوش الصحابة وأن قادتها كانوا مع الناس يصيبهم ما يصيب الناس؛ ثم رأوا قائد المجاهدين في غزة بعدما سلقته ألسنة المنافقين بأنه في الأنفاق مختبئ، أو على الحدود هائم على وجهه، فإذا بهم يرونه في معمعة القتال مجاهداً شرساً وبطلاً مغواراً؛ حتى لقي ربه شهيداً مرضيّاً بإذن الله.