لعل أشهر كلمة للعالِم الموسوعي عبدالرحمن بن خلدون الآن رغم كثرة ما كتب في فنون العلم المتنوعة قوله: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»(1)، ولعل شهرتها راجع إلى المُشاهَد في واقعنا من فشو الاقتداء بالغرب في سائر الاعتبارات وعلى سائر الأصعدة.
وفي هذا المقال نستعرض أسباب تلك الظاهرة، وتقييمها، ثم تقويمها، لنجيب عن سؤال: هل يستحق الغرب الاقتداء به؟
أسباب الاقتداء بالغرب
الحضارة الغربية هي الغالبة الآن، وهذا واقع لا تصح المكابرة فيه، وإن النفوس في الغالب يحصل فيها التماهي بين فكرتي القوة والكمال، فلا ترى القوي الغالب كذلك إلا لكماله، ثم تستنج من ذلك صحة هديه، فترى أفكاره وأحواله وعاداته حسنة، وينسى المغلوب مع ذلك -في أحيان كثيرة- ما حصل من جرائم في حقه حال تصادمه مع الغالب.
وكل أغلاط الفكر السابقة مُعلَّلة مُبررةً لمن كان فارغًا مما تُقوَّم به الأفكار والأحوال والعادات، ولذلك فإن ظاهرة الاقتداء بالغرب وإن كانت مبررة من جهة حصولها؛ لكنها ليست مبررة لمن عَقِل حقيقة هذه الحضارة من جهة التقييم، وهذا مستند إلى المنظومة المعرفية عند المقيِّم، وهي النقطة المركزية في صراع الحضارات الحاصل قديمًا وحديثًا.
صراع الحضارات سُنة كونية
وإن الإسلام هو المنظومة المعرفية الأقدم على الإطلاق، فكان دين الإنسان الأول آدم عليه السلام، ولم تخل أمة قط من نبي، كلهم مشتركون في العلم بمنظومة معرفية واحدة -وإن اختلفت شرائعهم- والعمل بها والدعوة إليها، وأساسها توحيد الله عز وجل وخالقيته لكل شيء ووجوب عبادته وإنفاذه وعده بثواب عابديه وعقاب جاحديه.
وتعددت، في المقابل، حضارات أخرى لديها منظومات معرفية أخرى تصارعت مع هذه المنظومة الأصيلة، فقص الله عز وجل علينا حكاية هذا التصادم في عدة قصص، كعاد، وثمود، وقوم فرعون، وقوم تبع.. وغيرهم، وكانت العاقبة للمتقين عاجلًا بهلاكهم وآثارهم وبقاء الإسلام، وستكون كذلك آجلًا بوراثة المتقين النعيم الخالد وبقاء غيرهم في العذاب الأبدي.
لماذا لا يجب على المسلمين الاقتداء بالغرب؟
وإن تلك الرؤية المعرفية الكاملة التي أرساها الإسلام في نفوس متبعيه عصية على التماهي مع كل فكرة تضادها، ولذا بقيت مكامن الحضارة الإسلامية متماسكة رغم تقهقر المسلمين حضاريًا، وظهرت مكامن الضعف في الحضارة الغربية للجميع -ومنهم الغربيون أنفسهم- رغم غلبتهم، والسر يكمن في الأخلاق(2)، فإن الحضارة الإسلامية حضارة أخلاقية على مستواها النظري والعملي، بخلاف الحضارة الغربية التي فككت الإنسان نفسه وأفرغته من كل ما هو أخلاقي، في مقابل تعظيم النفعية التي لم تبقه إنسانًا؛ بل كائنًا متوحشًا يقتات على ما سلبه من غيره.
ولا شك بأن المولعين بالاقتداء بالغرب من المسلمين لم يفقهوا حقيقة الإسلام وما تمايز به عن غيره، وقد أثرت فيه تلك الأغلاط الفكرية بجانب ما صنعته الحضارة الغالبة من ترويج ثقافتها، بل وفرضها في أحيان كثيرة حتى تنعدم البدائل التي تبين عوارها، ولا شك بأن هذا الاحتكار وحده غير أخلاقي، فضلًا عما أرساه من أفكار وممارسات.
الحضارات في نظر الأخلاق
وإن النظر إلى الأخلاق على أنها مكون هامشي وسط مكونات لا فاعلية حقيقية لها؛ لهو نظر سطحي لا يقره عقل، فهي أساس قيام الحضارات وسقوطها، وهي الضامنة لاستقرار المجتمعات أو تعثرها، وقيمة الأخلاق مركوزة في فطرة سائر البشر، فلا يستطيعون الانفكاك عنها إلا بكثير جهد تصنعه الثقافة الغالبة على المجتمعات بالإحلال والتبديل.
أما حضارة الإسلام فهي حضارة أخلاقية حال قيامها أو تعثرها، وبالأخلاق تعلو على سائر الحضارات، وقد كان المسلمون وقت معاصرة خاتمة النبوات مدركين لذلك حتى قبل قيام مظاهر مدنيتهم، فلم يساووا بين ما تميزوا به من سمو -حتى حال مبتدأ حضارتهم- وما عند غيرهم، ولم يستنكفوا، في الوقت نفسه، عن أخذ مظاهر العمران عن غيرهم، وبهذا جمعت حضارتهم بين سمو الأخلاق وتحصيل القوة، فذابت منتوجات غيرهم فيهم وليس العكس.
وما أجمل ما حُكي من مناظرة بين فارسي وعربي بين يدي الوزير العباسي الفارسي يحيى بن خالد البرمكي (ت 190هـ)، فقال الفارسيّ: «ما احتجنا إليكم قطُّ في عمل ولا تسمية، ولقد ملكْتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم وما فيها على ما سمّينا، ما غيرتموه!».
فقال الأعرابي: «اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة بعد ألف سنة كانت قبلها، فإننا بعدها لا نحتاج إليكم ولا إلى شيء كان لكم»(3).
فقد فَقِه هذا الأعرابي البسيط التفريق بين مكامن قوة الفكرة التي تبني الحضارة العظيمة، والمنتوجات الحضارية التي هي منجز إنساني يسهل تحصيله من كل أحد ويمكن كذلك اقتباسه عن كل أحد.
حاجتنا إلى استعادة الأخلاق المفقودة
وما أزكته ثقافة تلك الحضارة الغالبة من سيادة النفعية قد سلب الأخلاق الحسنة شيوعها في المجتمعات المقتدية بها، سواء على المستوى الجمعي أو الفردي، حتى إنه ليندر وجود مظاهر أخلاق كانت طبيعية في المجتمعات الإسلامية سابقًا كالحياء والعفة والكرم وغيرها، وإن حقيقة رغبة المسلمين في رجوع حضارتهم قوية تسود الأمم هو عين رغبتهم في شيوع الأخلاق الفاضلة، فلا ينالهم السقوط الأخلاقي المدوي السائد في عامة الأمم الآن، أو حتى يقل التأثر به في مجتمعات المسلمين، وقد باتت الحاجة إلى سيادة الحضارة الإسلامية من جديد ملحة لا غنى للعالم أجمع عنها؛ حتى تنقذ العالم من أزمته الأخلاقية الحالية، فأنى لمن انتحل شريعة بُعث نبيها صلى الله عليه وسلم ليتمم صالح الأخلاق(4) أن يقتدي بحضارة غير أخلاقية؟!
___________________
(1) مقدمة تاريخ ابن خلدون (1/ 184).
(2) يراجع: كتاب الدولة المستحيلة للدكتور وائل حلاق، وهو أطروحة غربية عينت أصل التميز بين الحضارة الإسلامية وغيرها بأنها حضارة أخلاقية.
(3) أدب الكاتب لأبي بكر الصولي، ص 193.
(4) «بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»، حديث أخرجه أحمد (8939)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وصححه الألباني.