لم يعد قَبول «الصهيونية» بعد السابع من أكتوبر كما كان قبل ذلك، فقد كشفت التطورات منذ هذا التاريخ من مجازر فظيعة، وتهجيرٍ قسريّ، الوجه الحقيقي لها، وهو الوجه الذي حاول الاحتلال وأذرعه المختلفة أن يخفوه بمظلومية مدعاة، وتاريخ مزورٍ قلق، فعاد الحديث عن أخطار هذه الأيديولوجيا على فلسطين والشرق والعالم أجمع، وعادت الأصوات التي تطالب بتجريمها، وتُنادي بإدانتها وإعادة النظر بها، وعلى الرغم من هذه العودة الميمونة والرفض الكبير، فإن موجات التصهين تجتاح جزءًا من العالم العربي، وتضرب أكباد مواطن الدفاع عن فلسطين وقضيتها، وهو ما يطرح سؤالًا بالغ الأهمية: كيف تواجه الأمة الصهيونيّة؟
الصهيونيّة آخر قلاع الاستعمار
كثر في الآونة الأخيرة استخدام عبارة أن «إسرائيل» هي الحصن المتقدم للغرب عامةً، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، وقد أعاد العدوان على غزة، إبراز موقع «إسرائيل» المحوري في السياسة الغربية، فلم يقتصر الأمر على ضمان تفوقها، بل شمل أيضًا ضمان وجودها وسيادتها على المحيط العربي والإسلامي.
وحول المشروع الصهيونيّ وأخطاره، يصف د. عبدالوهاب المسيري بأنَّ «الصهيونيّة فكرة استعماريّة ذات صفة إحلالية فريدة»، وقد جاء الاحتلال ليكون التعبير الحيّ عن هذه الفكرة، وقد حمل المشروع الصهيونيّ أهدافًا مسكوت عنها، فلا يُفصح الاحتلال عنها إلا بعد إتمامها، وقد ظهرت هذه السياسة منذ بدايات الاستيطان الصهيونية في فلسطين وحتى يومنا هذا، إذ ينتظر الظروف المواتية لتحويل اعتداءاته وما يقوم به من استيطان وتغلغل وإحلال إلى حقائق وقوانين.
كيف تواجه الأمة هذه الأخطار؟
لا شك بأن مواجهة الصهيونية يدور في مستويات عدة، نبدأ بالفهم العام لهذه الظاهرة، ثمّ تعزيز المناعة الذاتية، ولاحقًا الاحتضان الفلسطيني، وتصل في النهاية إلى العالم، وكل فضاء ممكن للمواجهة، وفي النقاط الآتية، نستعرض أبرز الخطوات.
الأولى: تشريح الصهيونية وأدواتها:
أمام حالة الدعم غير المسبوق التي يتلقاها الاحتلال، من الأهمية بمكان فهم الصهيونيّة كمشروع استعماري عالميّ، وأدواته المختلفة التي تريد استيلاب الأرض وإنهاء أي وجودٍ للسكان عليها؛ فلسطينيين كانوا أو سوريين ولبنانيين وأردنيين، إضافةً إلى معرفة ما تستخدمه الصهيونية من ستارٍ دينيّ، في محاولة لتحقيق أهدافها الاستعمارية، وخلط الدين مع الأهداف للوصول إلى مبتغاها في تحقيق السيطرة المطلقة على «إسرائيل الكبرى».
وفي سياق فهم الصهيونية وادعاءاتها، من المهم تفكيك المفاهيم التي قامت عليها، وروجت لها، على غرار «أرض الميعاد»، وأن فلسطين لم يكن فيها شعب، من خلال عبارة «أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض»، إضافةً إلى ما تكتفنه «الصهيونية» من عنصرية تجاه كل الآخر غير اليهوديّ، فهي جزء من النظرة الاستعلائية التي يروج لها اليهود بصفتهم «الشعب المختار»، وهو ما يسمح لهم بانتهاك حقوق الفلسطينيين، وكل الشعوب الأخرى من دون قيدٍ أو شرط.
الثانية: مقاومة فكرية وثقافية ومعرفية:
بطبيعة الحال تأتي هذه الخطوة متلازمة تمامًا مع الخطوة السابقة، ولكن لإفرادها أهمية خاصة، فتحليل الظاهرة ورصدها وكشف مثالبها، ومن ثم ما جرى بالتوازي معها منذ بلورة الفكرة وصولًا إلى تحقيق الدولة الصهيونية، ما يدلل على أهمية الدراسة التاريخية لهذه الحركة وما قامت به، وكيف عملت الحركة الصهيونية على فرض وجودها، وكيف استولت على أراضي الفلسطينيين، ودحض أكاذيبها من خلال المحطات التاريخية المتتالية، ولا بدّ في هذا السياق من بناء وعي ثقافي وفكري عربي وإسلامي، ومن الضرورة بمكان أن يكون هذا الوعي عميقًا من جهة، ومشتبكًا مع العدو من جهة أخرى.
ويُشير د. المسيري إلى أن هذا التجديد يسمح إلى إنتاج خطابٍ جديد في مواجهة الصهيونيّة ودولة الاحتلال، وسيؤدي بطبيعة الحال إلى سقوط الأوهام المتعلقة بالصهيونية، وخاصة تلك التي تدّعي بأن مشروعها لا تعتريه المثالب، وأنه حقق نجاحًا تامًا، فقد أسس الدولة وحقق كل أهدافه، بل يرصد جوانب الإنجاز التي تحققت ومواطن القوة، كما يرصد مكامن الضعف، ويدفع نحو العمل على الاستفادة منها وتعميقها.
ويؤكد المسيري، رحمه الله، أن اليهود ليسوا عباقرة أو شياطين، وإنما بشر، يُمكن «إراقة دمهم» ومواجهة مشاريعهم، إضافةً إلى أن عوامل القوة والضعف والحياة والموت كامنة في هذا الكيان.
الثالثة: الالتفاف حول فلسطين وقضيتها:
وهو مطلب ملح وضروري، وهو واجبٌ لا يسقط مع التقادم، ولا تتوقف أهمته مع الزمن، وهو اليوم وأمام المجزرة المستمرة في قطاع غزة بات أوجب الواجبات، خاصة أن المعركة الحالية في جزء أساسي من أهدافها كانت محاولة لمنع تصفية القضية الفلسطينية، واستفراد الاحتلال وداعميه معها، فالوقوف مع فلسطين هو مواجهة للصهيونية ومشروعها، ودعم المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة مواجهة لمشاريع الصهيونية القائمة على التغول والسيطرة وما يتصل بها من مشاريع للسيطرة على القدس والأقصى والتهويد.
وفي سياق الالتفاف حول فلسطين، لا يُمكن أن ننجز هذا الاحتضان والدعم في ظل استمرار التطبيع العربي والإسلامي مع الاحتلال، من خلال أي مستوى من المستويات، فالتطبيع يسمح للاحتلال باتخاذ المزيد من الذرائع للبقاء، ويفتح المجال أمامه لتقبله في الإطار العربي والإسلامية، وهو ما يعني أن رفض التطبيع من منطلق العداء الصهيونية، ومن مبادئ دعم فلسطين ومقاومتها، واستمرار كشف مضار التطبيع، ومآلاته الكارثية، وما استطاع الاحتلال تحقيقه من خلال هذه الاتفاقيات.
أخيرًا، تشكل الخطوات السابقة إطارًا عامًا أوليًا لمواجهة الصهيونية وأخطارها، ولكن لا بدّ من إطارٍ أوسع وأكثر شمولية لهذه الخطوات قائم على بلورة المشروع الحضاري العربي والإسلامي، الذي يستمد حيويته وفاعليته من القرآن الكريم والسُّنة النبوية، والعمل على إيجاد نماذج تفسيرية من رحم هذا التاريخ الإسلامي الممتد، والبناء على هذه النماذج في إطار رؤية إنسانية شاملة، لا تواجه النموذج الصهيونية الاستعماري فقط، بل تكون بديلًا عنه.
فاستعادة المكانة الحضارية للأمة الإسلامية تسمح بتقديم البديل الإنساني الشامل للهيمنة الغربية الحالية، وهو ما يعني إحياء الهوية الثقافية الإسلامية وتعزيز روحها الأصيلة ومظاهرها المعاصرة، وما يتصل بها من خطاب فكري متوازن يجمع بين القيم الروحية للإسلام والأدوات الحديثة.
هذا الدفع الحضاري المهم، ضرورة مرحلة لإيجاد فاعلية حضارة أممية، وقادرة على مواجهة كل التحديات التي تواجه الأمة، وهو ما يمثل قمة الخطوات لصد الهيمنة الصهيونية، وكبح تغول الإرادة الغربية ومشاريعها المختلفة، ويسمح بنقل الأمة من حالة الضعف والتشرذم، إلى قيادة مشروع تحرري عالمي ومواجهة الظلم في فلسطين وكل مكان، مهتدين بقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران 103).
_______________
1- عبدالوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.
2- عبدالوهاب المسيري، الاستعمار الصهيوني وتطبيع الشخصية اليهودية: دراسات في بعض مفاهيم الصهيونية والممارسات الإسرائيليّة.
3- وليد سالم، مجلة «قضايا إسرائيلية»، المركز الفلسطيني للقضايا الإسرائيلية– مدار، عدد (83)، ص 84-85.
4- رؤية عبدالوهاب المسيري لحل المسألة الفلسطينية، منتدى العلماء، 14/ 10/ 2023/، https://tinyurl.com/hx5n27k6.