تظل قضايا التعليم من القضايا ذات الحساسية العالية والأهمية القصوى للمجتمعات والدول؛ ولذلك تتمتع بأولوية، وترصد لها الميزانيات، ويستفرغ فيها الباحثون والخبراء جهودهم وخبراتهم من أجل تطوير وترقية المجتمعات لتحتل مكانة سامية ومتقدمة بين الأمم والشعوب، ولمناقشة قضايا التعليم في السودان جلسنا إلى د. ياسر محمد مكي أبوحراز، المدير الأسبق للمركز القومي للمناهج والبحث التربوي، المدير السابق للمركز القومي لتدريب المعلمين، لنعرض عليه جملة من القضايا التي تتعلق بمسيرة التعليم في السودان.
نود، بداية، أن نقف بصورة عامة على موضوع تطور التعليم في السودان خلال السنوات الماضية.
– لقد درجت وزارة التربية والتعليم في السودان على إقامة مؤتمرات قومية للتعليم من أجل المراجعة والتطوير والمواكبة للنظام التربوي والتعليمي في البلاد بصورة عامة، وتم عقد أول مؤتمر قومي للتعليم في عام 1969م، وفيه تم تعديل السلم التعليمي إلى نظام (6، 3، 3) بدلاً عن نظام (4، 4، 4) سنوات، ثم عقدت مؤتمرات قومية أخرى للتعليم من أهمها مؤتمر عام 1990م الذي وضعت فيه غايات التربية السودانية بصورة واضحة ومحددة لأول مرة في تاريخ التعليم بالسودان منذ استقلاله في 1/ 1/ 1956م إلى أن جاء المؤتمر القومي للتعليم في عام 2012م الذي شمل قضايا التعليم العام، والتعليم العالي، والتعليم التقني والتقاني.
وبالنسبة للتعليم العام، فقد أوصى المؤتمر بالرجوع إلى منهج المواد الدراسية المنفصلة في مرحلة التعليم الأساسي، وأبقى على أيام العام الدراسي 210 أيام دراسية، مع زيادة عام دراسي للسلم التعليمي (8، 3) سنوات ليصبح 12 عاماً بدلاً من 11 عاماً، وترك لوزارة التربية والتعليم الخيار لوضع هذا العام في مرحلة التعليم الأساسي أو المرحلة الثانوية حسب الأفضلية، فأقامت الوزارة عدداً من حلقات النقاش والورش والدراسات شاركت في معظمها إلى أن استقر رأي الوزارة على إضافة العام لمرحلة التعليم الأساسي لتصبح 9 سنوات بدلاً من 8 سنوات، كما أن مؤتمر التعليم لعام 2012م أوصى بمراجعة غايات التربية السودانية وأهداف المراحل الدراسية.
ما مدى انتشار التعليم والالتحاق بالمؤسسات التعليمية في السودان قياساً إلى عدد السكان؟
– بالنسبة لانتشار التعليم، فقد كانت التقديرات لأعداد الدارسين بصورة عامة في مراحل التعليم العام (وهي مرحلة ما قبل التعليم الجامعي)، بالإضافة إلى طلاب الخلاوي والدارسين في فصول محو الأمية وتعليم الكبار، بالإضافة إلى طلاب مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة، تصل أعداد هؤلاء الدارسين إلى حوالي 10 ملايين دارس، من جملة عدد سكان السودان البالغ عددهم، حسب التقديرات، 45 مليون نسمة في عام 2019م، وتشير التقديرات إلى أن عدد سكان السودان قد بلغوا في نهاية العام 2023م حوالي 48 مليون نسمة.
ما أهم القضايا التي تواجه عملية التعليم في السودان؟
– وعن أهم قضايا التعليم في السودان فيمكن أن نجملها في الآتي:
1- المباني المدرسية:
على سبيل المثال، فقد أوضحت إحصاءات وزارة التربية والتعليم الاتحادية للعام الدراسي (2019/ 2020م) لمدارس مرحلة التعليم الأساسي (سابقاً) بالسودان، أن أعلى نسبة توفر للمباني المدرسية كانت بولاية النيل الأبيض (79%)، تليها ولاية كسلا (74%) وكانت بولاية شمال دارفور (6%)، وعن توفر الفصول للمرحلة الثانوية في ذات العام فقد بلغت ولاية البحر الأحمر أعلى نسبة (100%)، تليها ولاية كسلا (98%).
2- الكتاب المدرسي:
هناك مواصفات لطباعة الكتاب المدرسي بالسودان يضعها المركز القومي للمناهج والبحث التربوي لضمان جودة الكتاب من حيث جودة الورق والتلوين والغلاف وجودة الطباعة، وهذه المواصفات تسلم لأصحاب المطابع مع أصول الكتب للعمل بها وتطبيقها بالدقة المطلوبة.
3- الإجلاس:
يعاني عدد من ولايات السودان من النقص في الإجلاس بالنسبة للطلاب والمعلمين.
4- الإنفاق على التعليم العام وتمويله:
يعد العامل الاقتصادي من أهم العوامل المؤثرة على التعليم سلباً أو إيجاباً؛ ذلك لأن له كبير الأثر في ميزانيات التعليم، بل إن المفهوم الجديد للتعليم على مستوى العالم أنه عملية استثمارية، وأصبح التخطيط للتعليم يعتمد على المؤشرات الاقتصادية، فالعلاقة بينهما طردية؛ كلما ازدهر الاقتصاد ازدهر التعليم، وكلما ازدهر التعليم ازدهر الاقتصاد لاستفادته من مخرجات نظام التعليم.
5- قضايا المعلم:
يعد المعلم أهم العناصر في العملية التعليمية، لأنه ينفذ المنهج في المدرسة التي يعمل بها، وله دور أساسي في تنشئة الأبناء ورعايتهم ومتابعة نموهم الشامل المتكامل عقلياً وروحياً وبدنياً وثقافياً واجتماعياً، لأجل ذلك كان لا بد من الاهتمام الكامل بكل ما يتعلق بالمعلم من حيث اختياره وإعداده وتعيينه وتدريبه وتأهيله ونموه مهنياً، وتدرجه الوظيفي ورعايته اجتماعياً ومادياً ونفسياً، ولا شك أن تدريب المعلمين يمثل أولويه كبرى من أولويات التخطيط التربوي؛ لأن المعلم يعتبر حجر الزاوية في العملية التعليمية، وأن نجاح العملية التعليمية يرتكز في المقام الأول على المعلم وتدريبه وإعداده بما يتناسب مع المتغيرات في الحقل التربوي.
في ظل هذا الواقع، ما أبرز تحديات التعليم في السودان؟
– بالرجوع إلى أهم قضايا التعليم الواردة أعلاه، وبالاطلاع على نتائج الزيارات السنوية الميدانية التي يقوم بها العاملون في المركز القومي لتدريب المعلمين، والمركز القومي للمناهج والبحث التربوي خلال الفترة من عام 2000م إلى 2019م، وبمراجعة الإحصاءات والتقارير التي وردت إلى الإدارة العامة للتخطيط التربوي بوزارة التربية، ومن خلال مؤتمرات التعليم التنسيقية التي عقدت وضمت وزراء التربية ومديري التعليم بالولايات لذات الفترة، يتضح أن أهم التحديات التي تواجه التعليم بالسودان تتمثل في الآتي:
ضعف التمويل للتعليم؛ سواء من المركز أو الولايات والمحليات؛ الأمر الذي انعكس سلباً على التعليم نتج عنه النقص في الكتاب المدرسي ومراشد المعلمين، ونقص الإجلاس، والنقص في تعيين وتدريب المعلمين، وإنشاء وصيانة المباني المدرسية، وقلة المعامل، وقلة الأدوات للمناشط المدرسية، وضعف دور الإشراف التربوي، وقلة التقنيات التربوية والوسائل التعليمية.
وكذلك التباين في جودة التعليم بين الولايات؛ إذ إن الولايات الغنية تتمتع بواقع أفضل في مجال التعليم، بينما تعاني الولايات الفقيرة من التردي في التعليم.
وأيضاً ضعف مرتبات واستحقاقات المعلمين مع التأخير في صرف المرتبات.
بالإضافة إلى اكتظاظ الفصول بالطلاب في عدد من الولايات بما فيها ولاية الخرطوم؛ مما يؤثر سلباً على عملية التحصيل الدراسي.
ومنها طول فصل الخريف في الولايات الجنوبية للسودان مثل ولايات جنوب دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق (من 6 إلى 8 أشهر)؛ مما يؤثر سلباً على سير العملية التعليمية بالمدارس، خاصة أن بعض المدارس في هذه المناطق مبنية بمواد غير ثابتة (مدارس قشية)!
ولا ننسى تسرب بعض التلاميذ من المدارس الريفية بغرض مساعدة أهاليهم في مجالات الزراعة والرعي، أو بسبب الزواج المبكر خاصة لدى قبائل الرحل، والنقص في عدد المعلمين في المناطق الريفية، إذ يفضل المعلمون العمل في المدن لاعتبارات أسرية ومادية، وضعف تدريب المعلمين على مختلف مستوياتهم.
الحرب المستمرة في السودان منذ أكثر من عام ونصف عام، كيف أثرت على التعليم العام والعالي في السودان؟
– بدأ تدهور التعليم في السودان منذ بداية حكم اليسار بقيادة رئيس الوزراء السابق د. عبدالله حمدوك، بعد ذهاب حكومة الإنقاذ في عام 2019م؛ وذلك بسبب توقف المعلمين وأستاذة الجامعة عن العمل من وقت لآخر، وبسبب تتريس الطرق وتوقف وسائل النقل لشهور طويلة، فأصيبت العملية التعليمية بشلل شبه تام، حتى تراكمت 3 دفعات متتالية في السنة الأولى بالجامعات دون دراسة بعد نجاحهم في امتحانات الشهادة الثانوية وقبولهم في الجامعات.
وجاء التدهور الكبير للتعليم في السودان مع بداية الحرب التي شنتها المليشيا المتمردة على الدولة بقيادة محمد حمدان دقلو بمساعدة المرتزقة الأجانب، في 15/ 4/ 2023م، فتم تدمير عدد من الجامعات والمدارس (كلياً أو جزئياً) في بعض الولايات خاصة ولايتي الخرطوم وغرب دارفور، وتم حرق وتدمير الغالبية العظمى من مؤسسات التعليم العالي في بعض الولايات، مثل الضرر الذي أصاب مباني جامعة الجزيرة بمدينة ود مدني، وتشرد عدد كبير من الطلاب ونزوحهم مع أهاليهم جراء الحر من عدد من الولايات إلى مناطق أخرى داخل السودان، ولجأ البعض الآخر إلى دول أخرى خاصة دول الجوار مثل مصر وليبيا وتشاد وإثيوبيا وإريتريا.
هناك خطط وإستراتيجيات أمريكية للتدخل في مناهج التعليم في العالم العربي، حسب متابعتكم، هل هناك مظاهر للتطبيق العملي لهذه الإستراتيجيات؟ وما تجربة السودان العملية للتعامل معها؟
– نعلم أن هناك محاولات أجنبية (أمريكية، «إسرائيلية») للتدخل في بعض الدول العربية والإسلامية، بصورة أو بأخرى، من أجل تعديل المناهج التعليمية؛ بحيث تصبح مناهج علمانية إلحادية؛ بغرض تخريج أجيال مشبعة بالأفكار العلمانية والإلحادية لإبعادهم عن عقيدتهم الدينية وتاريخهم وثقافاتهم الإسلامية.
وهو ذات الأمر الذي حدث في السودان إبان فترة حكم اليساريين والعلمانيين، في الفترة من عام 2019 – 2022م، حينما تم تعيين د. عمر القراي مديراً للمركز القومي للمناهج والبحث التربوي، الذي قام بإبعاد عدد من مختصي المناهج من المركز بالنقل إلى وزارة التربية والتعليم ولاية الخرطوم، وعمل على تشكيل لجان من خارج المركز قامت بإعداد كتب مدرسية -لا تحمل مواصفات الكتب المدرسية– تم فيها حذف مادة القرآن الكريم، وحذف الآيات القرآنية والأحداث النبوية من الكتب المدرسية الأخرى.
وتم توزيع هذه الكتب على المدارس في الولايات، فخرج الطلاب وأسرهم في كثير من مدن السودان في مظاهرات احتجاجية على هذه الكتب الإلحادية التي أدخلت إلى المدارس، وتم حرقها في بعض الولايات أمام وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وبعد ذهاب حكومة أهل اليسار تم تكليف محمود سر الختم الحوري، يرحمه الله، وزيراً للتربية والتعليم، فقام بإصدار قرار وزاري ألغى بموجبه كل هذه الكتب التي تم إعدادها في فترة تولي د. القراي لإدارة المركز القومي للمناهج والبحث التربوي بعد أن خسرت الدولة أمولاً طائلة لطباعتها، وهناك كمية كبيرة من هذه الكتب ما زالت مخزنة في مخازن وزارة التربية والتعليم الاتحادية بالخرطوم، شاهدة على تلك الحقبة السوداء من تاريخ التعليم في السودان.