في أحد مقالاتي السابقة، أشرت إلى فكرة أثارت فضول العديد من القراء: «كلما أبقينا العقل غير واعٍ؛ تحكمنا أكثر في قراراته الشرائية»، ولأن هذا المفهوم يبدو غامضًا للوهلة الأولى، أجد من الضروري تسليط الضوء عليه بشكل أعمق.
في عالم التسويق، يعد فهم السلوك الشرائي للمستهلك أحد أهم مفاتيح النجاح، ومن أبرز الكتب التي تتناول هذا الجانب النفسي والتسويقي كتاب «كيف يفكر العملاء؟» (How Customers Think) لجيرالد زالتمان، في هذا الكتاب، يقدم زالتمان فكرة محورية مفادها أن 95% من قراراتنا لا تنبع من العقل الواعي، بل من العقل الباطن، هذا الأخير يمثل مستودعًا ضخمًا للقناعات الراسخة والارتباطات العاطفية التي تشكلت دون وعي منا.
كيف يحدث ذلك؟
العقل الباطن، كما يصفه العلماء، يعمل كآلة تلقائية، تُبرمج من خلال التجارب الحياتية، والعواطف، والمحفزات المتكررة، عندما نشاهد إعلانًا، فإننا لا ندرك غالبًا التأثير الكامل الذي يتركه فينا، لأنه يستهدف مباشرة تلك الأعماق اللاواعية، الإعلانات الحديثة تتجاوز مجرد عرض السلعة أو تقديم فوائدها، إذ تعتمد على تقنيات معقدة لتحفيز مشاعر معينة أو استدعاء ذكريات وأحلام مرتبطة بطريقة غير مباشرة بالمنتج.
على سبيل المثال، عند مشاهدة إعلان لعطر، قد لا يركز المشاهد على خصائص العطر نفسه، بل على المشاعر التي يربطها الإعلان بالمنتج؛ الرومانسية، القوة، النجاح، هذه المشاعر تتسلل إلى العقل الباطن؛ ما يدفع المستهلك إلى اتخاذ قرار الشراء بدافع غير عقلاني تمامًا.
من الشراء الواعي إلى الشراء اللاواعي
لم يعد الإعلان يكتفي بحثّ المستهلك على شراء منتج يحتاج إليه بالفعل، بدلاً من ذلك، أصبحت الإعلانات تهدف إلى خلق احتياجات جديدة وتحفيز سلوك استهلاكي غير مخطط له، فعلى سبيل المثال، قد يذهب الشخص إلى المتجر لشراء غرض محدد، لكنه يجد نفسه يعود بأشياء لم يكن ينوي شراءها، هذه الظاهرة ناتجة عن التلاعب الماهر بالعقل الباطن من خلال تصميم الإعلانات، وترتيب المنتجات في المتاجر، وحتى استخدام الألوان والإضاءة.
لماذا نحتاج لفهم هذا الأمر؟
فهمنا لآليات التأثير اللاواعي يساعدنا كمستهلكين على اتخاذ قرارات أكثر وعيًا، وتجنب الوقوع في فخ التسويق العاطفي الذي يسيطر على عقولنا دون أن ندرك، ومن جهة أخرى، يُعد هذا الإدراك أداة فعالة للشركات والمسوقين لابتكار إستراتيجيات تسويقية أكثر ذكاءً وأقل استغلالًا.
كيف ينطبق هذا على العمل الخيري؟
في العمل الخيري، تتشابه الآليات النفسية مع تلك المستخدمة في التسويق التجاري، القرارات التي يتخذها المتبرعون غالبًا ما تكون غير واعية، مدفوعة بمشاعر معينة مثل التعاطف، والإحساس بالمسؤولية الاجتماعية، أو حتى الشعور بالسعادة الناتجة عن العطاء.
خذ على سبيل المثال؛ حملات التبرع التي تركز على طفل مبتسم تلقى مساعدة، أو على قصة إنسانية مؤثرة، هذه الصور والقصص لا تُخاطب العقل الواعي بقدر ما تُحفِّز العاطفة في أعماق العقل الباطن، المتبرع لا يُفكر في آلية إنفاق الأموال أو في تفاصيل المشاريع الخيرية، بل يتجاوب مع المشاعر التي أثارتها الحملة.
إستراتيجيات تسويقية للعمل الخيري
للاستفادة من هذه الديناميكية النفسية، يجب على المؤسسات الخيرية تبني إستراتيجيات تعزز التأثير اللاواعي للعطاء، من هذه الإستراتيجيات:
1- القصص الإنسانية المؤثرة: الناس يتذكرون القصص أكثر من الأرقام، رواية قصة إنسانية حقيقية تجعل المتبرع يشعر بارتباط شخصي مع الحالة.
2- التأثير البصري: الصور والفيديوهات التي تُبرز النتائج الإيجابية للمساعدات تُحفِّز العقل الباطن وتجعله أكثر استجابة للتبرع.
3- ربط العطاء بالسعادة: أظهرت الدراسات أن التبرع يولد شعورًا بالسعادة لدى المتبرعين، استثمار هذا الشعور من خلال رسائل تعزز الفكرة القائلة: «العطاء يعود عليك بالفرح» يُمكن أن يكون فعالًا.
4- إبراز الأثر الإيجابي للتبرع: تقديم أمثلة ملموسة عن كيف يُمكن للتبرع أن يُغير حياة الأفراد يُساهم في تعزيز الاستجابة اللاواعية للعطاء.
التحذير من الاستغلال
رغم أهمية هذه الأدوات، فإن العمل الخيري يتطلب موازنة دقيقة، لا ينبغي أن يكون الهدف مجرد إثارة العواطف لاستقطاب التبرعات، بل يجب أن تكون هناك شفافية في إدارة الموارد وإظهار أثر التبرعات على أرض الواقع، استغلال التأثير النفسي للعطاء دون الوفاء بالوعود يُمكن أن يُفقد المؤسسة مصداقيتها.
ختامًا، إذا كان العقل الباطن مسؤولًا عن 95% من قراراتنا الشرائية كما يدعي زالتمان، فإن فهمه هو المفتاح لفهم السلوك الاستهلاكي بشكل أعمق، فكل قرار شرائي قد يبدو عشوائيًا، هو في الحقيقة نتيجة مباشرة للتأثير النفسي والإدراكي الذي يتسلل إلى عقولنا دون إذن واضح.