تعول مصر كثيرًا على الاستثمارات الخارجية خلال الفترة المقبلة، على الرغم من فشل تجربتها خلال السنوات الماضية، حيث لم تؤد الاستثمارات الاجنبية المباشرة في مصر إلى تغير حقيقي في الصادرات أو جلب التكنولوجيا أو استيعاب أعداد كبيرة من العمالة
تعول مصر كثيرًا على الاستثمارات الخارجية خلال الفترة المقبلة، على الرغم من فشل تجربتها خلال السنوات الماضية، حيث لم تؤد الاستثمارات الاجنبية المباشرة في مصر إلى تغير حقيقي في الصادرات أو جلب التكنولوجيا أو استيعاب أعداد كبيرة من العمالة، ولكنها أتت بشكل كبير في قطاعات البترول والعقارات والسياحة، وتشير بيانات البنك المركزي المصري، إلى أن قطاع البترول يستوعب ما يصل إلى 70% من تدفقات الاستثمارات الأاجنبية المباشرة.
ويدفع مصر للهرولة خلف الاستثمارات الأجنبية مجموعة من الأسباب، منها: الفجوة بين الاستثمارات والمدخرات المحلية التي وصلت بنهاية العام المالي 2013/2014م بنحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن جانب آخر تستهدف مصر جلب تدفقات من النقد الأجنبي من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر، بعد تراجع إيرادات قطاع السياحة بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية، وكذلك التغير السلبي في الميزان التجاري للبترول، حيث تحول إلى عجز يصل إلى نحو 500 مليون دولار في يونيو 2013/2014م، وكذلك تراجع رصيد مصر من احتياطي النقد الأجنبي لـ16.9 مليار دولار في نهاية أكتوبر 2014م.
وقد أعلنت الحكومة المصرية عزمها على عقد مؤتمرها الاقتصادي المسمى “مؤتمر المانحين”، أو مؤتمر “شركاء مصر”، في مارس القادم، وتستهدف الحكومة الحصول على استثمارات من هذا المؤتمر تقدر بنحو 20 مليار دولار، وهذه ليست تجربة مصر الأولى مع المؤتمر لدولية التي تبتغي منها الحصول على مساعدات أو استثمارات تحرك اقتصادها الضعيف.
ففي عام 1996م استقبلت مصر مؤتمر منتدى “دافوس” لإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخرجت منه مصر خاوية الوفاض، وكان الغرض من المؤتمر التسويق لاندماج “إسرائيل” في اقتصاديات المنطقة، كما نظمت مصر مؤتمر مانحين في عام 2003م في مدينة شرم الشيخ، إبان تولى د. عاطف عبيد رئاسة وزراء مصر، وأعلنت الحكومة عن حصولها على 10 مليارات دولار كمنح من الدول المشاركة، والحقيقية أن مصر لم تحصد دولاراً واحداً، ولكن الدول المشاركة استدعت اتفاقيات بينها وبين الحكومة المصرية لم تدخل حيز التنفيذ، وبلغ إجمالي هذه الاتفاقيات 10 مليارات دولار، فاعتبرت الحكومة هذه المراجعة أنها حصلت على هذه المبالغ، وهو ما لم يتحقق أيضاً فيما بعد.
كما شاركت مصر في القمم الاقتصادية العربية منذ القمة الأولى المنعقدة في الكويت عام 2009م، وكذلك في الرياض، ثم مصر، وكانت المحصلة لا شيء، يزيد عن المعدل الطبيعي لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، والغريب أن الاتحاد الأوروبي وأمريكا هما صاحبتا النصيب الأكبر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمصر في قطاع البترول.
وفي كل هذه المؤتمرات تعلن مصر من خلال مؤسساتها المالية والاقتصادية أنها أعدت مشروعات بمليارات الدولار للعرض على هذه المؤتمرات، وهو ما سيحدث مع المؤتمر المنتظر في مارس القادم، وتنتهي المؤتمرات وتبقى المشروعات المصرية تنتظر العرض في مؤتمرات قادمة.
تتناسى الحكومة المصرية أنها تفتقد للمناخ والبيئة المناسبة للاستثمار المحلي قبل الاستثمار الأجنبي، لقد فقدت مصر خلال السنوات الخمس الماضية أحد أهم المميزات التي كانت تجتذب بعض الاستثمارات الأجنبية، وبخاصة تلك المتعلقة بالصناعات كثيفة الطاقة، حيث انتهى عصر الطاقة الرخيصة في مصر، بعد أن تحولت الطاقة إلى مشكلة لمصر في الفترة الحالية وفي الفترة المقبلة، فضلاً عن الروتين، وتعدد التشريعات الاقتصادية وتعارضها.
ولكن في الآونة الأخيرة نشرت وسائل الإعلام مجموعة من الأخبار التي تجعل الاستثمار الأجنبي يعيد النظر في اتخاذ قراره بشأن الاستثمار في مصر، ومن هذه الأسباب ما يلي:
– حالة الهلع التي تبثها أجهزة الإعلام المصرية وتصدرها للعالم عن الوضع السياسي في مصر، ومواجهة الإرهاب، مما يعطي مردوداً سلبياً عن استقرار الأوضاع السياسية والأمنية في مصر، وبدون استقرار سياسي وأمني، لا يفكر الاستثمار الأجنبي في الذهاب لأي دولة، فالمسلَّمة الاقتصادية تقول: إن “رأس المال جبان”؛ وهو ما يتطلب أن يعيد الانقلاب العسكري في مصر حساباته، وأن أمر استقرار مصر سياسياً وأمنياً لن يكون عبر القبضة الأمنية، ولا من خلال ممارسات القمع، ولن تكون هناك استثمارات بمصر في ظل هذا المناخ السلبي السائد.
– حالة عدم استقرار سعر صرف الجنيه المصري، فالملاحظ أن قيمة الجنيه المصري في انخفاض مستمر، ولا تعرف نهاية لهذا الانخفاض، والمعنى الذي يريده المستثمر الأجنبي، هو استقرار سعر الصرف، حتى يمكنه بناء قرار اقتصادي سليم فيما يتعلق بدارسة جدوى مشروعه، وكذلك احتياجاته من تدبير مستلزمات الإنتاج من الداخل، أو بيع منتجاته بالداخل كذلك، كما أن وضع الإنتاج في مصر يعتمد على الواردات بنسبة كبيرة سواء لمستلزمات الإنتاج أو العدد والآلات، وهو ما يستلزم توفير النقد الأجنبي، ولا تقوم البنوك المصرية بتدبير كامل احتياجات الموردين من النقد الأجنبي، ولكنها توفر نسبة ويوفر المستثمر باقي احتياجات من السوق السوداء، مما يجعل تكلفة الإنتاج متذبذبة ولا تعرف الثبات؛ وهو ما يعرض المصدرين المرتبطين بعقود طويلة الأجل لخسائر نتيجة عدم استقرار سعر الصرف.
– أن البنية الأساسية لمصر تعاني من سوء أداء، وتراجع معدلات الصيانة، ولعل آخرها ما نشر عن عدد الكباري المتصدعة في مصر والقابلة للسقوط في أي وقت، حيث صرح رئيس الهيئة العامة للطرق والكباري بأن هناك 700 كوبري تعدى خط الانهيار، من إجمالي 1706 كباري في مصر، أي أن نسبة 41% من كباري مصر لا تصلح أن تكون في عداد البنية الأساسية، ونفس النسبة تنطبق على الطرق حسب تصريح المسؤول الحكومي، ولا يتوقف الأمر عند انهيار الكباري والطرق، بل الأدهى هو عقلية إدارة الأموال العامة من خلال الموازنة، فمخصصات الصيانة في مصر لا تتعدى 3 مليارات جنيه، وتتعرض للنقص أثناء تنفيذ الموازنة.
– مازالت مصر لم تستكمل مؤسساتها بعد، فمازالت السلطة التشريعية غير موجودة، ومكرسة في يد رئيس جاء عن طريق انقلاب عسكري، وقد صدرت العديد من التشريعات الاقتصادية خلال الفترة الماضية، ولا يضمن هل سيقرها البرلمان القادم أم لا؟ وثمة أمور أخرى تثير المخاوف لدى المستثمرين بشأن التوجهات الاقتصادية للحكومة والبرلمان القادمين.
– مع بداية العامة المالي الحالي 2014/2014م، اتخذ الحكومة قرارها بتخفيض دعم الطاقة بنسبة 25%، على أن تنتهي من رفع دعم الطاقة بشكل نهائي خلال أربع سنوات، ولكن رئيس لجنة الطاقة باتحاد الصناعات المصرية صرح بأن قرار الحكومة برفع أسعار الطاقة أدى زيادة في عناصر تكاليف صناعات التشييد والبناء، ولنا أن تصور شكل الأسعار في مصر بعد استكمال الرفع النهائي لدعم الطاقة.
– بعد حوادث الطرق في مصر، اتخذت الحكومة قراراً بقصر سير السيارات النقل الكبيرة على الليل فقط، ولكن هذا القرار كانت له تبعات اقتصادية أخرى، لم ينظر إليها متخذ القرار، وهو ما يدلل على أن الإدارة الاقتصادية تعمل في إطار نظرية الجزر المنعزلة، فالمجلس التصديري لمواد البناء والحراريات أعد مذكرة بالأضرار المنتظر على هذا القطاع بسبب قرار قصر سير السيارات النقل على 7 ساعات خلال الليل فقط، وتوقع أن يؤدي القرار إلى زيادة أسعار الصادرات من مواد البناء، ونفس التهديدات حذرت منها مؤسسات وهيئات اقتصادية عدة.
التجارب الناجحة في اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر قامت على توفير بيئة ومناخ إيجابي للاستثمار المحلي أولاً، مما أغرى الاستثمارات الأجنبية للاستفادة من هذه المزايا الممنوحة لقطاعات اقتصادية معينة، أو تلك المتعلقة بسرعة إنهاء الإجراءات، أو سرعة الدخول والخروج من السوق، أو القضاء على البيروقراطية.
ولكن التجربة المصرية بعيدة عن هذه الإيجابيات تماماً؛ مما يجعلنا نوقن بأن المؤتمر الاقتصادي لمصر في مارس القادم مجرد شكل إجرائي ليس أكثر ولا أقل، وقد يقتصر على مساهمة خليجية إعلامية كما حدث خلال الشهور الماضية في تونس، الإعلان عن استثمارات دون تحديد أرقام، ولا برامج زمنية للتنفيذ.