من الصعب أن تلج إلى أزقة مدينة موستار العتيقة من المطاعم والمقاهي ومحلات بيع الهدايا التذكارية المزدحمة بالسائحين، وتجد مشقة في صعود الجسر القديم الذي يميز المدينة من السائحين المنتشرين على جنباته يلتقطون الصور من كل جهة ويلتفون حول بعض الشباب الواقفين على حافة الجسر متوثبين للقفز من على ارتفاع نحو 53 متراً في نهر “نرتفا” خامس أطول الأنهار البوسنية مقابل مائة يورو، وهي أحدث المهن في موستار التي احترفها واخترعها من يجيدون القفز في النهر للتغلب على الأزمة الاقتصادية في المدينة.
جمال المدينة يخفي قبح السياسة
لكن جمال موستار يخفي أيضاً أزمة سياسية تحير عقول وقلوب سكانها الذين يزيد عددهم على 113 ألف نسمة في آخر إحصاء، بينما كان عدد السكان قبل الحرب 126 ألفاً يتوزعون على 35% من المسلمين، و34% كرواتاً، و19% صرباً، و 10 %يوغوسلافاً.
فالمدينة لا تزال مقسمة بين الكروات والمسلمين حتى بعد مرور عشرين عاماً على انتهاء الحرب، وهكذا كانت أثناء الحرب حيث عمل الكروات على تأسيس ما يسمى بجمهورية “هرسك بوسنة” وعاصمتها موستار.
وفي رسالة من كروات البوسنة تؤكد رغبتهم في الانفصال عن البوسنة دمروا في نوفمبر 1993م الجسر القديم الذي بناه الأتراك (1557-1566م) وربط بين شطري المدينة لقرون.
انتهت الحرب وأعيد تعمير الجسر عام 2004م ووضع تحت حماية يونسكو لكن موستار باتت المدينة الوحيدة في أوروبا المحرومة من أن يترشح سكانها أو ينتخبوا مجلسهم البلدي منذ سبع سنوات، وفي الانتخابات العامة والبلدية التي جرت في البوسنة العام الماضي كانت موستار خارج حسابات هذه انتخابات.
ويقود المدينة حالياً عمدتها الكرواتي “ليوبو بيشليتش” الذي يتولى هذا المنصب منذ عام 2004م، وتم تمديد ولايته للعام الثامن على التوالي بينما بقيت المدينة بدون المجلس البلدي المكون من 35 عضواً، وهو أهم وأعلى هيئة تدير شؤون المدينة والمسؤول عن اتخاذ جميع القرارات السياسية والاقتصادية فضلاً عن انتخابه لعمدة المدينة بثلثي أصوات الأعضاء.
الأسباب الكامنة وراء معاناة سكان موستار
السبب يمكن في خلاف عميق بين حزب التجمع الكرواتي الديموقراطي، أكبر أحزاب كروات البوسنة، وحزب العمل الحركة الديموقراطية، أكبر أحزاب مسلمي البوسنة، حول تقسيم الدوائر الانتخابية؛ إذ يريد الكروات أن تكون موستار دائرة انتخابية واحدة، ويطالب المسلمون بتقسيمها إلى ست دوائر، ثلاث للمسلمين ومثلها للكروات، بينما يرى المندوب الدولي السامي الحالي في البوسنة فلانتين أنتسيكو أن الحل يكمن في تقسيم المدينة إلى ثلاث دوائر، وهو ما يرفضه المسلمون والكروات.
وكان المندوب السامي الأسبق بيدي أشيدوان قد أنهى تقسيم المدينة بقرار عام 2005م بعد أن فشل حزب التجمع الديمقراطي الكرواتي وحزب الحركة الديمقراطية اللذان يحكمان المدينة في التوصل إلى اتفاق يحسم مصيرها، ونص قرار توحيد المدينة على حل البلديات الست التي سيطر الكروات على ثلاث منها في الغرب، والمسلمون على ثلاث في الشرق لتعتبر موستار دائرة انتخابية واحدة من مجلس بلدي مكون من 35 عضواً بعد أن كان عدد أعضائه 195 لن تكون لأي قومية فيه الأغلبية المطلقة؛ وهذا ما جعل قادة كروات البوسنة يعترضون على قرار التوحيد بعد أن كانوا يظنون أن القرار يتماشى مع تطلعاتهم لأحكام قبضتهم على موستار، وقال المسلمون: إن قرارات أشيدوان تجعل من منصب عمدة المدينة حكراً على الكروات، بينما رأت المعارضة البوسنية أن قرار توحيد موستار يصب في مصلحة المدينة وسكانها.
لكن بعد الفترة الانتقالية وإجراء الانتخابات عام 2008م فاز التجمع الكرواتي الديموقراطي بمنصب عمدة المدينة، وحصل على ستة مقاعد في المجلس البلدي، لكنه اتحد مع أحزاب كرواتية أخرى فأصبح نصيبه من المقاعد 17 مقعداً وحزب الحركة الديموقراطية 12 مقعداً دون أن يتحد مع الأحزاب المسلمة الأخرى، في عام 2010م قررت المحكمة الدستورية إلغاء قرار اعتبار مدينة موستار ذات وضع خاص الذي استند إلى اعتبار موستار دائرة انتخابية واحدة، وطلبت المحكمة من البرلمان تعديل قانون الانتخاب بناء على قرارها، لكن البرلمان لم يفعل بسبب عدم اتفاق الحزبين الكرواتي والمسلم في حين لم يستخدم المندوب الدولي للسلام صلاحياته لإجبارهما على ايجاد مخرج لهذه الأزمة، موضحاً أن السبب يكمن في انعدام الرغبة السياسية من الطرفين لحل هذه المشكلة.
التقسيم والسياسة لا يعطلان السياحة
بعد انتهاء ولاية المجلس البلدي عانت المدينة من شلل في كافة نواحي الحياة بعد إضرابات عمت المدينة بسبب عدم حصول الموظفين على رواتبهم بمن في ذلك العاملون في الدفاع المدني وإطفاء الحرائق وعمال النظافة وتوقف مسرح المدينة عن العمل، وتعطلت إجراءات نقل الملكية ومصالح المواطنين التي ينظر فيها المجلس البلدي خاصة بعد قرار المندوب السامي للمجلس بالتوقف عن إصدار القرارت بعد انتهاء مدته القانونية في بداية عام 2013م، ثم حظر عمله وتجميد الأموال التي تحصل عليها المدينة، وقد استند الأعضاء الكروات على هذا القرار لمقاطعة المجلس الذي لم يعد فاعلاً، بينما استمر أعضاؤه في الحصول على رواتبهم.. مرة أخرى تدخل المندوب السامي ورفع الحظر المالي عن المدينة، وأن يسير أمور المدينة عمدتها الكرواتي ليوبو بيشليتش، بينما تعتبر المعارضة أن بيشليتش لا يتمتع بأي شرعية انتخابية، وأنه يواصل التحكم في مقدرات المدينة وصرف ميزانيتها التي تقدر بنحو 25 مليون يورو دون رقيب، وأن المدينة تعيش أسوأ أيامها على مدى السنوات الثلاث الماضية، ويظهر ذلك في السياحة المزدهرة هذه الأيام في المدينة، لكنها تعتمد على العمل في السوق السوداء والكوادر غير المدربة وسوء استغلال السياح وازدحام السوق بالبضائع المهربة، ومع ذلك يجب ألا ننسى أن ازدهار السياحة يعود إلى جهود المستفيدين منها؛ لأن معظم هؤلاء السياح يزورون موستار، جنوبي البوسنة، أثناء عبورهم إلى ميجوجوري، جنوبي البوسنة، ذات الأغلبية الكرواتية والمشهورة بالسياحة الدينية للكاثوليك، ومدينة دوبروفنيك الكرواتية الواقعة على البحر الأدرياتيكي في ظل غياب من يخططون ويعملون على تحسين مقدرات المدينة حسب ما قاله لي أحد أصحاب المطاعم في موستار.
وفي انتظار الرغبة السياسية لقادة التجمع الكرواتي الديموقراطي والحركة الديموقراطية وتدخل المندوب السامي للسلام لم يعد أحد يهتم بما يحدث في موستار، ولا أحد يستعجل الحل لا السياسيين ولا المواطنين، فهي تبدو موحدة من على قمم جبال فيليج المحيطة بالمدينة ومن أعلى الجسر القديم، كما أراد المندوب الدولي للسلام، لكن أسفل الجسر تبدو المدينة غارقة في التقسيم بسبب الخلافات القومية بين السياسيين، ومشلولة بسبب غياب أهم وأعلى سلطة في المدينة.