تعيش غزة هذه الأيام أجواء قاسية وتخوفاً من كارثة إنسانية جديدة تضاف للوضع المعقد الذي يعيشه أهلها، في ظل الحصار الخانق بعد أن اتخذ النظام الحاكم في مصر بحفر قناة مائية يتم ضخ مياه البحر فيها على الحدود مع غزة، بعد سلسلة من الإجراءات التعسفية التي شملت هدم الأنفاق التي تمثل شريان الحياة الوحيد لتوريد المواد الغذائية وتوفير مقومات الحياة الأساسية للمواطنين، إلى إنشاء منطقة عازلة بين الجانبين بعد أن طرد السكان القاطنين فيها، وهي القناة التي يبلغ طولها 13 كيلومتراً، بعمق يصل من 8 – 20 متراً، ويأتي ذلك في ظل إغلاق معبر رفح أمام حركة المسافرين، وإدخال البضائع ليزيد من معاناة المواطنين ومأساتهم.
وفور الانتهاء من شق هذا الأخدود الذي أنجزه الجيش المصري في وقت قياسي استغرق أسابيع قليلة، ستقوم مصر بجر مياه البحر الأبيض المتوسط لتغمره بهدف زيادة ترشيح مياه البحر في عمق التربة، لتزيد من غمر الأنفاق وتساهم في انهيارها، لكن تقارير إخبارية عدة تحدثت عن البدء الفعلي لضخ مياه البحر الأبيض المتوسط عبر أنابيب ضخمة إلى الممر المائي.
ويقول الجيش المصري في تبريره لأهداف هذا المشروع: إنه جاء بعد استنفاد جميع الوسائل لإقناع غزة بوقف حفر الأنفاق، وانتهاك السيادة المصرية والتعاون مع التنظيمات الإرهابية، وتوفير الملاذ الآمن للإرهابيين، وتوفير مراكز التدريب والسلاح والعلاج أيضاً داخل غزة، لكن أياً من هذه التهم التي توجَّه إلى قطاع غزة، والتي كانت سبباً في هذا التضييق، لم يثبت صحتها، ولم يصدر قرار يدين أي طرف من قطاع غزة بالمسؤولية وراء الأحداث في سيناء.
المواطن يتساءل
وبنظرة مليئة بالخوف والقلق، ينظر المواطن محمد عيسى من مدينة رفح إلى أعمال الحفريات التي يجريها الجيش المصري،ويقول عيسى لـ”المجتمع“: نحن نعيش على الحدود مع مصر، ودائماً نسمع أصوات التفجير، ونشاهد عمليات هدم الأنفاق، وكذلك هدم البيوت المجاورة للحدود التي تقوم بها آليات الجيش المصري، وكنا نظن أن هذا أقسى وأقصى ما يمكن أن يقوم به الجيش المصري، ولكن بعد شق هذا الممر المائي فنحن نعيش في حالة الخطر الحقيقي، ونتوقع مزيداً من تلك الممارسات، مضيفاً أن شق هذا الطريق سيحرمنا من شرب المياه الصالحة لأنه سيلوث الخزان الجوفي، موجهاً تساؤله إلى الجيش المصري، وقد امتزج حديثه بالحسرة والألم: ما الذي فعلناه لكم حتى تضيّقوا علينا وتحرمونا من العيش بكرامة؟!
أما المواطنة مريم العمور، فتعبر عن شعورها حول إجراءات النظام المصري المشددة بحق المواطنين الغزيين بالقول: قدرنا أن نعيش تحت رحمة اليهود والنظام المصري، مردفة بالقول: هناك مبررات لممارسات الاحتلال القمعية بحقنا لأنه محتل صهيوني، ولكن ما مبرر مصر العروبة والإسلام فيما يقوم به النظام الحاكم من تضييق وتنكيل بحقنا، مكتفية بالقول: حسبي الله ونعم الوكيل على كل من ساعد في عذابنا.
أهداف غير معلنة
من جانبه، يقول الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الصواف لـ”المجتمع”: إن النظام المصري يستغل بعض العمليات التي تحدث في سيناء من أجل إحكام قبضة الحصار على غزة، واستكمال إجراءات تجفيف منابع المقاومة الفلسطينية في غزة، وأضاف أن الجانب “الإسرائيلي” والإدارة الأمريكية والقاهرة يعتبرون أن المنطقة العازلة وما يجري فيها من شق ممر مائي وسيلة لضمان عدم دخول أي نوع من أنواع السلاح إلى القطاع.
أسباب العداء
وفي البحث عن سر العداء الشديد الذي يظهره النظام المصري لقطاع غزة يرى الكاتب إبراهيم حبيب، في حديث لـ”المجتمع“، أن ذلك يرجع إلى هدفين؛ أحدهما يتمثل في ارتباط “حماس” التي تسيطر على القطاع بجماعة الإخوان التي يعتبرها النظام جماعة إرهابية، بينما يتمثل الهدف الآخر، حسب الخبير الأمني، في أن النظام الذي جاء بانقلاب عسكري ضد إرادة الشعب، وما نجم عن ذلك من تكريس الواقع بطريقة أسوأ من قبل ثورة يناير 2011م، يريد أن يبحث على أوراق اعتماد لقوى إقليمية ودولية، فوجد ضالته في دولة الاحتلال الصهيوني التي يمكن أن تكون جواز سفر للاعتماد الأمريكي والغربي؛ وبالتالي فهو يقدم أوراق اعتماده لـ”إسرائيل” في محاربة المقاومة الفلسطينية، لافتاً إلى أن ذلك الأمر عبّر عنه رئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي في إحدى لقاءاته حينما قال: إنه من غير المسموح أن يتم تهريب السلاح لقطاع غزة لتعادي دولة أخرى في إشارة إلى “إسرائيل”.
تنفيذ ما عجز عنه المحتل
ويؤكد نائب رئيس سلطة المياه في غزة مازن البنا أن المشروع يعدّ مساساً بالحقوق المشتركة للشعبين، مطالباً بوقف تنفيذه بشكل فوري لما يمثله من خطورة وتهديد للأمن المائي، والغذائي، والاقتصادي، والقومي المصري والفلسطيني.
وشدد البنا على أن قيام الحكومة المصرية بتنفيذ هذا المشروع هو محاولة جديدة لإحياء وتنفيذ ما عجز عن القيام به الاحتلال قبل حوالي عقد من الزمن لحفر قناة مائية أو خندق مائي على طول الحدود الفلسطينية المصرية باستخدام مياه البحر؛ بهدف مكافحة المقاومة، مع العلم أن هذه الأنفاق لم تعد موجودة، وتم تدمير الغالبية العظمى منها.
خطر قاتل
من جهته، أوضح الخبير المائي إبراهيم ماضي أن هذه القناة المائية أو ما يطلق عليها برك تربية الأسماك على حدود غزة ستؤدي إلى تداخل حقيقي بين كتلة ضخمة من مياه البحر تقدر بـ13 مليون متر مكعب هي حجم المياه الكلي الذي سيستخدم لإنشاء هذه القناة، وبين الخزان الجوفي لغزة المدمر أصلاً، واصفاً المشروع بأنه “الخطر القاتل”، ومحذراً من أنه يمثل تهديداً بيئياً خطيراً للخزان الجوفي المشترك بين قطاع غزة ومصر؛ لما سيترتب على ذلك من زيادة نسبة ملوحة المياه الجوفية، وخاصة لمنطقة رفح الفلسطينية والمصرية على حد سواء، مما يجعلها غير صالحة للاستخدام الآدمي، وأكد أن أخطر ما في الموضوع أيضاً أن تضاريس الحوض الساحلي تميل من الجنوب إلى الشمال أسفل الأرض؛ مما سيؤثر على المياه الجوفية لكل القطاع.
وفي ظل هذا العداء المتصاعد من قبل أركان النظام المصري لقطاع غزة، فإن وسائل التضييق والتنكيل يبدو أنها لن تتوقف عند هذا الحد.