كلما عادت التفجيرات الإرهابية في باكستان عاد الحديث عن الجماعات الدينية ودورها في الصدام مع الدولة.
ورغم أن هناك العشرات من الجماعات الدينية التي لا ترتبط بأي علاقة بالإرهاب ولا تؤمن بنظرية العنف من أجل تحقيق أهدافها؛ فإن قلة قليلة من هذه المجموعات باتت تهدد الدولة وتعرض أمنها واستقرارها لخطر كبير في السنوات الماضية.
وبات التواجد الديني في باكستان متنوعاً ومختلف الأهداف، منه من هو مستعد للتعايش مع الدولة، ومنه من ليس مستعداً لأي تعايش ويرغب في تدير الدولة وإعادتها العصور الحجرية.
ويقول الخبراء الباكستانيون وعلى رأسهم الجنرال أسلم بيك، رئيس معهد الدراسات الأمنية والإستراتيجية: إن ظهور باكستان قبل 7 عقود على أساس دولة دينية وليس عرقية جعل الدين يحتل مكانة خاصة، وجعل علماء الدين يطالبون باحترام مكانة الدين وانتهاء باكستان على أساس أن سبب ظهور مشروع دولة باكستان عن الهند كان سبباً دينياً وأقيم على كلمة التوحيد، ومن ثم فإن أي محاولة لتغيير هذا الوضع وتهديد هوية باكستان الدينية سيعني نهاية باكستان كمشروع دولة مستقلة.
واستمر التعايش بين الدولة والجماعات الدينية بالتعاون والتنسيق والتفاهم، حيث ظلت الدولة تشجع الدين والأنشطة الدينية وتحترم الدين في الدستور والقوانين، ولم تعلن حرباً عليها منذ استقلالها، لكن هذا الوضع تغير بعد أحداث سبتمبر؛ حيث تعرضت باكستان لضغوط كبيرة من قبل المجتمع الدولي والغرب وأمريكا بتحرك فوري لقص أجنحة المجموعات الدينية التي قررت حمل السلاح ومحاربة الغرب.
نمو الجماعات الدينية في باكستان
وفي قراءة سريعة للخريطة الدينية في باكستان وتطور الجماعات الدينية وتضاعف الإقبال على الدين والاهتمام المتزايد به بين أوساط السكان، فإن نظرة سريعة ستعطينا رؤية حول التطورات السريعة التي تشهدها باكستان في النمو الديني وبشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة.
– الجماعات الدينية قبل عام 1979م: تتحدث المراكز الدراسية والمتخصصة في باكستان وأبرزها مدير مؤسسة البحث في قناة “جيو” الإخبارية سليم صافي، ورئيس معهد باكستان لدراسات السلام عامر رانا؛ أن عدد الجماعات الدينية منذ استقلال باكستان عام 1947 إلى عام 1979م لم تكن تزيد في مجموعها على 30 جماعة دينية.
وكانت أبرزها الجماعة الإسلامية التي أسسها مولانا أبو الأعلى المودودي، وجمعية علماء إسلام التي أسسها مفتي محمود، وجمعية علماء باكستان، وجماعة “تحريك خلافت”، وحزب العمل الشيعي، وجماعة التبليغ الدعوية، وجمعية أهل الحديث، وجماعات صغيرة أخرى.
وظلت هذه الجماعات ترافق مسيرة استقلال باكستان وتتعايش معه بشكل أو آخر وتختلف معه، لكن ضمن الحفاظ على وحدة باكستان واستقلالها؛ إذ لم يكن أحد يشك في انتماء باكستان وفي أراضيها رغم الخلافات التي تحدث بين السياسيين من علمانيين وقوميين وإسلاميين، ولم تشهد باكستان طيلة هذه الفترة أعمال عنف على أساس ديني أو لجوء جماعات دينية لحمل السلاح ضد الدولة أو لفرض الشريعة بقوة السلاح عليها، حيث ظل بينهم توافق كبير، وظلت باكستان تمثل الدولة الدينية الرائدة في العالم الإسلامي دون أن يشك فيها أحد.
– الجماعات الدينية في عام 2017م: وبعد عام 1979م بدأت الخارطة الدينية في باكستان تتغير شيئاً فشيئاً، وبدأت ظاهرة العنف السياسي والطائفي تظهر قرونها بين المجتمع المسالم الذي لم يعرف منطق القوة في السابق ولا نظرية العنف لفرض أجندته وحمل السكان على اتباعه بقوة السلاح.
ومارست الثورة الإيرانية في هذا الدور الأبرز؛ حيث حملت سياسة الخميني التحريضية في باكستان الشيعة إلى اللجوء إلى العنف وتنظيم صفوفهم لتصدير الثورة الإيرانية إلى بلادهم وتحويل باكستان إلى هلال شيعي أو موالٍ للهيمنة الإيرانية.
وقوبل هذا الأمر برد مماثل حيث أخذت جماعات سُنية معتدلة إلى تنظيم نفسها لترد على الثورة الإيرانية، ولترد على محاولة هيمنة الخميني على القرار السياسي في باكستان.
وحملت هذه الثورة الباكستانيين المنتمين للتيارات الدينية السُّنية والشيعية إلى الدخول في حرب طائفية ضد بعضهم بعضاً انفجرت مطلع الثمانينيات وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، ورغم أنها لم تهدد الدولة ومشروع استقلال باكستان لكنها استطاعت زعزعة استقرار البلاد وحملها على حمل السلاح لتصفية الحسابات بعد أن ظلت باكستان دولة مسالمة ومتعايشة مع جميع طوائفها الدينية.
ويأتي العامل الآخر هو تفجر الجهاد الأفغاني في عام 1979م، وبسبب الفتاوى بضم الباكستانيين إلى دعم الجهاد وطرد القوات السوفييتية من أفغانستان قررت جماعات دينية معتدلة دعم المجاهدين الأفغان بالرجال ثم بالسلاح، وقرروا بعدها المشاركة في العمليات القتالية وظهرت لأول مرة جماعات دينية تؤمن بالسلاح والبندقية، لكنها ظلت محصورة بداية في تحرير الأوطان الإسلامية من الاحتلال الأجنبي.
وبعد أن كانت باكستان خالية من الأسلحة تغير كل شيء بعد الجهاد الأفغاني حيث حول باكستان إلى سوقاً ضخمة للأسلحة القادمة من أنحاء العالم لتزويد المجاهدين الأفغان بما يحتاجون وشجع هذا الواقع الأسواق المحلية للدخول في صناعة السلاح واستيراده من الخارج واستغلت الموافقة المحلية والدولية على دعم الأفغان لتتحول باكستان بعدها إلى أحد أكثر الأسواق المهمة للسلاح.
مستقبل التعايش بين الدولة والإسلاميين؟
ويبقى السؤال: أين ستتجه باكستان؟ وهل سيمكنها السيطرة على النمو المطرد للجماعات الدينية وتحقيق الاستقرار الاجتماعي وإعادة الأمن إلى ربوع البلاد؟ وقبل الإشارة إلى هذا الأمر نشير إلى الخارطة الدينية في باكستان وتنوع الانتماءات الدينية وأفكارها ومطالبها.
– تبلغ عدد الجماعات الدينية في باكستان ما لا يقل عن 239 جماعة دينية تنتمي إلى مختلف الأفكار من دينية وسياسية وجهادية ودعوية وإصلاحية وغيرها.
– تبلغ الجماعات الدينية التي ترفع شعارات المواجهة الطائفية وتمارس العنف الطائفي وتحرض عليه في باكستان ما لا يقل عن 148 جماعة.
-تعمل 12 جماعة دينية في باكستان اليوم وترفع شعارات إحياء الخلافة الراشدة وتعتبر إعادة الخلافة الإسلامية من أهدافها الرئيسة في باكستان.
– تنتمي 24 جماعة دينية باكستانية إلى الفكر الجهادي وتؤمن بتغيير الأوضاع بالقتال.
– تنتمي 21 جماعة دينية إلى الفكر السياسي وتؤمن بالتغيير عبر صناديق الاقتراع لتحقيق أهدافها وتمارس نشاطها السياسي الديني وتؤمن بالأحزاب والانتخابات ودور البرلمان في حل الأزمات وتحقيق الأهداف.
في رأي الخبراء الباكستانيين وعلى رأسهم الجنرال أسلم بيك، والخبير الإستراتيجي سليم صافي أنه عندما نأخذ في عين الاعتبار الوضع على الأرض والعدد الكبير للجماعات الدينية التي تفوق اليوم 239 جماعة دينية في باكستان سنشعر أكثر بصعوبة السيطرة القريبة على الأوضاع، وبأن مهمة إعادة الاستقرار والسيطرة عليه ستكون مهمة فعلاً صعبة للغاية، لكنها لن تكون مستحيلة أيضاً.
ووجود القيادة الراشدة والقوية في هذا الوقت يمكن أن يعيد الاستقرار لباكستان ويحقق تعايشاً وإن كان متواضعاً بين الطرفين، ومن دون أن تضع باكستان رؤية واضحة لهذا الصراع وتؤمن بأنه لن يحل في معظمه برؤية أمنية، فإن احتمالات النجاح قد تكون أكثر حظاً، أما إذا استمرت الرؤية الأمنية فقط وحدها هي السلاح المستخدم واستمر وضع جميع التيارات الدينية في سلة المهملات، فإن معاناة الباكستانيين من دون شك ستطول وسترهق الدولة وستسبب لها الكثير من المتاعب.