الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
فإن يوم عرفة يوم عظيم من أيام الله، يوم تكفر فيه السيئات، وتقال فيه العثرات، وتُجاب فيه الدعوات، وتُسكب فيه العبرات، ويباهي الله تعالى بالحجاج الملائكة، وهو يوم المغفرة والعتق من النار، وما رؤي الشيطان فيه أحقر من ذلك اليوم، قال تعالى: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: 3].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ قَالَ: الشَّاهِدُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَوْعُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ[1].
قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 198، 199].
قال ابن كثير رحمه الله: «﴿ثُمَّ﴾ ها هنا لعطف خبر على خبر، وترتيبه عليه، كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها إلا قريشًا، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل ويقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقطَّان بيته.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَت قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ، أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ ثُم يَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾»[2]. وفي رواية: «فَأَنْزَلَ الله عز وجل: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾»[3]. وكذا قال ابن عباس ومجاهد وغيرهم، واختاره ابن جرير وحكى عليه الإجماع- رحمهم الله»[4].
وقال تعالى: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ [الفجر: 3]. قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة والضحاك: الوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر[5].
قال تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات: أيام عشر ذي الحجة[6].
وأما فضائله في السُّنة فهي كثيرة جدًّا، فمن ذلك:
– أنه أحد الأيام العشرة المفضلة في أعمالها على غيرها من أيام السنة، روى البخاري في صحيحه والترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم! وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»[7].
– ومنها: أنه يوم المغفرة، وصيامه يكفر سنتين، ويُشرع صيامه لغير الحاج، روى مسلم في صحيحه والترمذي في سننه من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»[8].
وروى المنذري في الترغيب والترهيب عن ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات وكادت الشمس أن تؤوب، فقال: «يَا بِلالُ! أَنْصِتِ لِيَ النَّاسَ»، فَقال: «مَعَاشِرَ النَّاسِ، أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا، فَأَقْرَانِي مِنْ رَبِّيَ السَّلَامَ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ، وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ»، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا لَنَا خَاصَّةً؟ قَالَ: «هَذَا لَكُمْ وَلِمَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، فَقَالَ عُمَرُ: كَثُرَ واللهِ خَيْرُ اللهِ وَطَابَ[9].
– ومنها: أنه يوم العيد لأهل الموقف، روى أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلَامِ»[10].
– ومنها: أنه يوم العتق من النار، روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ عز وجل فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ»[11].
– ومنها: أن الله يباهي بالحجاج الملائكة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي مَلائِكَتَهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا»[12].
قال ابن عبدالبر رحمه الله: «وهذا يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران»[13].
– ومنها: أنه ركن الحج الأعظم، فمن فاته الوقوف بعرفة، فقد فاته الحج، فقد روى النسائي في سننه من حديث عبدالرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْحَجُّ عَرَفَةُ»[14]. قال ابن حجر رحمه الله: «أي معظم الحج وركنه الأكبر»[15].
فإذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة كما حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اجتمع للمسلمين عيدان، يوم الجمعة، ويوم عرفة، روى البخاري ومسلم من حديث طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلًا من اليهود قال له: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ [16].
وروى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قرأ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3] فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد، ويوم جمعة[17].
قال ابن القيم رحمه الله: «إن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر أفضل ليالي العام، وليلة الجمعة أفضل ليالي الأسبوع، وكذلك وقفة عرفة يوم الجمعة لها مزية على سائر الأيام، وتحصل مع دنوه سبحانه وتعالى من أهل الموقف ساعة الإجابة التي لا يُرد فيها سائلًا يسأل خيرًا، فيقربون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة، ويقرب منهم تعالى نوعين من القرب؛ أحدهما: قرب الإجابة المحققة في تلك الساعة، والثاني قربه الخاص من أهل عرفة ومباهاته بهم ملائكته، فتستشعر قلوب أهل الإيمان هذه الأمور، فتزداد قوة إلى قوتها، وفرحًا وسرورًا وابتهاجًا ورجاءً لفضل ربها وكرمه، فبهذه الوجوه وغيرها فضلت وقفة يوم الجمعة على غيرها.
وأما ما استفاض على ألسنة العوام بأن موافقة يوم عرفة ليوم الجمعة تعدل اثنتين وسبعين حجة، فباطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين. والله أعلم»[18].
«ويوم عرفة يوم أغر، وهو ملتقى المسلمين المشهود، يوم رجاء، وخشوع، وذل وخضوع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعبير عنه»[19].
وأفضل الدعاء دعاء ذلك اليوم، قال ابن عبد البر رحمه الله: «دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب»[20].
والدعاء يوم عرفة عظيم المكانة، رفيع الشأن، وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: «…أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ القَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبَلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتىَّ غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ»[21].
وروى النسائي في سننه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: «كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو فَمَالَتْ بِهِ نَاقَتُهُ، فَسَقَطَ خِطَامُهَا، قَالَ: فَتَنَاوَلَ الْخِطَامَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ الْأُخْرَى»[22].
وأقرب الحجيج عند الله منزلة أكثرهم له ذكرًا، قال ابن القيم رحمه الله: «أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله، فأفضل الصوام أكثرهم ذكرًا لله في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرًا لله، وأفضل الحجاج أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، وهكذا سائر الأعمال»[23][24].
ويستمر الحاج في الدعاء والتضرع وكثرة الذكر إلى أن تغرب الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم [25].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش
[1] (13/ 352) برقم 7973، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[2] صحيح البخاري برقم 4520، وصحيح مسلم برقم 1219.
[3] صحيح البخاري برقم 1665.
[4] تفسير ابن كثير رحمه الله (2/ 259-260).
[5] تفسير ابن كثير رحمه الله (14/ 338).
[6] صحيح البخاري، باب فضل العمل في أيام التشريق.
[7] صحيح البخاري برقم 969، وسنن الترمذي برقم 757 واللفظ له.
[8] صحيح مسلم برقم 1162، وسنن الترمذي برقم 749 واللفظ له.
[9] (2/ 157) برقم 1737، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : إن ثبت سنده إلى ابن المبارك فهو على شرط الصحيح اهـ، نقله السيوطي في اللآلي (2/ 104)، قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في تعليقه على صحيح الترغيب والترهيب: وظني أنه لو لم يثبت سنده إلى ابن المبارك ما جزم المؤلف بنسبته إليه كما هو ظاهر، ومع ذلك فله شواهد خرجتها في الصحيحة برقم 1624، والله تعالى أعلم (2/ 33) برقم 1151.
[10] برقم 2419، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 458) برقم 2114.
[11] برقم 1348.
[12] (11/ 660) برقم 7089، وقال محققوه: إسناده لا بأس به، وأصله في صحيح مسلم برقم 1348.
[13] التمهيد (1/ 120).
[14] برقم 3016، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن النسائي (2/ 633) برقم2822.
[15] فتح الباري (11/ 94).
[16] صحيح البخاري برقم 45، وصحيح مسلم برقم 3017.
[17] تفسير ابن جرير (4/ 419).
[18] زاد المعاد (1/ 60-65) بتصرف.
[19] الفتاوى (5/ 374).
[20] التمهيد (6/ 41).
[21] برقم 1218.
[22] برقم 3011، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي (2/ 632)برقم 2817.
[23] الوابل الصيب ص181-182.
[24] الخطب المنبرية ، د. عبدالمحسن القاسم (2/ 185-187) بتصرف.
[25] انظر كتاب أخينا الشيخ د. صالح العصيمي: أحكام عرفة – دراسة فقهية مقارنة، فقد أجاد.
المصدر: “الألوكة”.