نشرت مجلة “إيكونوميست”، أخيراً، ملفاً حول منصّة التواصل الاجتماعي، “فيسبوك”، وأثرها على الممارسة الديمقراطية في المجتمعات الغربية. كان موضوع الملف الرئيسي ما أقر به المدير التنفيذي للمنصّة، مارك زوكربيرغ، عن إنفاق شركاتٍ ذات صلة بدولة روسيا الاتحادية نحو 150 ألف دولار على دعاية انتخابية لصالح الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، وأوضحت، في أكثر من مادة، من محتويات الملف للنقاش المجتمعي الأميركي بشأن كيفية التدخل، للحد من تدخل جهاتٍ “غير مرغوب” في تدخلها في التأثير على مجريات العملية الانتخابية الأميركية، دولا كانت أو كارتيلات مخدرات أو غيرها. وفي الملف عدة نقاط، من المفيد مناقشتها على مستوى أوسع من الديمقراطيات الغربية.
فمن ناحية، يتطرق الملف إلى السجال المجتمعي الأمريكي بشأن إمكانية سن تشريع لضبط تيار الإنفاق الخاص بالدعاية الانتخابية، وسط ضغوط تتعرّض لها اللجنة الفيدرالية للانتخابات التي توصف اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بأنها لجنة تفشل دوما في إقرار قانونها الخاص. ويأتي ضغط هذه اللجنة بين تيار نقاش مجتمعي مؤيد وآخر رافض لإقرار قانونٍ يتيح ضبط التيار الإنفاقي الدعائي، عبر منصات التواصل الاجتماعي، وخصوصا منصة “فيسبوك”. وعلى الرغم من جهود إدارة المنصّة في محاولات ضبط الأداء الدعائي، إلا أن “أتمتة” هذه الجهود ونتائجها لا يبشران بنتائج قوية، بقدر ما إن خوارزميات “فيسبوك” أدت نسبيا إلى ضعف سيطرة المنصة على عملية تداول روابط الأخبار المغلوطة. وما زال زوكربيرغ يقاوم ضغوطا تحاول دفعه إلى الإدلاء بمعلوماتٍ تخص قاعدة الإعلانات، ويجد من يسانده نسبيا في مقاومة هذه الضغوط.
تعيد السجالات الأميركية الرامية إلى تجاوز أثر الثورة الاتصالية إنتاج ما أثير في مجتمعاتنا قبل فترة من جدالٍ حول الثورة الاتصالية، وأثرها على بعض مباحث الفقه الإسلامي، وخصوصا مبحث “الردة”، الذي تأسس على افتراض قدرة الدولة الإمبراطورية القديمة على السيطرة على حدودها، وهو الافتراض الذي تلاشى أمام قدرة الثورة الاتصالية على تجاوز الحدود، وتجاوز قدرة الدولة على ضبط حركة الأفكار. ويفسر ضعف لياقة كلا الطرحين، بالنظر إلى تآكل مفهوم الحدود السياسية، ضعف تأييد القانون الذي طرحه السيناتوران مارك وارنر وإيمي كلوبوتشر، وهو ضعفٌ يفتقر كذلك لقدرته على تحديد مسؤولية المرشح عن دعايةٍ لصالحه، قد ينتجها بعض خصومه على سبيل النكاية. ويقدح عاملا الضعف هذان في إمكان تحقيق إجماع على مهاجمة جانب من الحريات المدنية، تمثله في هذا المقام منصّة “فيسبوك” والبيانات التي تخصها وعملاؤها. ويبقى أن النقاش المجتمعي الدائر في الولايات المتحدة بشأن هذه القضية، بصرف النظر عما قد يفضي إليه، ظاهرة صحية، ويمكن أن نعزو إلى إطارها الأرحب فضل تقوية المجتمعات الغربية، وتجدّد فكرها وتعافيها المستمر، وهي آلية نحتاج إلى خوضها، عوضا عن آليتي التسلط أو التجريح السائدتين في نموذج تواصلنا العام.
ومن ناحية ثانية، وإن كانت ترتبط هذه المرة بعلاقة المنصّة الاجتماعية بمحتواها، فإن موضوعا آخر بالملف ناقش دور “فيسبوك” في دعم التوجهات المجتمعية الراديكالية، يمينا أو يسارا، وليس فقط إسلاما، فضلاً عن دور هذه المنصة في إشاعة ما يعتبره الرئيس الأميركي “حقائق بديلة”، أو ما نعرفه باسم روابط الأخبار المغلوطة التي يغلب عليها الطابع الأيديولوجي أكثر مما تتعاطى مع الواقع ووقائعه. واتهمت موضوعات في ملف “الإيكونوميست” استسلام المنصة لميل المواطن الأميركي نحو العيش داخل فقاعته الخاصة بمكوناتها المختلفة؛ ومنها ارتباطاته الأيديولوجية. ولافت أن الملف قد أقحم “فيسبوك” في خضم هذه المعالجة، من دون أن يبدو إقحامه موضوعيا، بل بدا أن “الإيكونوميست” قد اتخذت قرارها بمساندة هذه المنصة، باعتبارها رمزا لمساحة الحريات المدنية، وانتهجت، في معركتها تلك، نهجا دفاعيا عن “فيسبوك” عبر مقارنة أثر ما تنشره المنصة بأثر نشرات “البريد الإليكتروني”، بالإضافة إلى مقارنة التفاعل على “فيسبوك” مع عملية الاتصال الشخصي/ المباشر التي يجريها الأفراد كل يوم مع ما حولهم من تحيزات الجيران والزملاء والأصدقاء. ونتيجة هذه المنهجية الدفاعية، لم تنجح بعض مواد الملف في إنتاج معالجة متوازنة لأثر سلبي محتمل لمنصة فيسبوك على الديمقراطية الغربية، وخصوصا مع إشارته، على استحياء، إلى كثرة المتغيرات التي تخرج بمستخدم هذه المنصة من فقاعته.
وفي تقديري، أنه لا يمكن نكران الدور الإنمائي السياسي لهذه المنصّة، سواء في الغرب أو حتى في مجتمعاتنا العربية. تكفي، في هذا الإطار، إطلالة على ظاهرة التجاور في الخطابات، وسهولة الوصول إلى الآخر والتعرّف على رؤيته ورأيه، وخوارزميات المنصة الاجتماعية التي تتيح لمستخدميها متابعة الآخر وتصوراته، من خلال متابعة تدفق الأخبار News Feed بشأن تعليقات الأصدقاء ومشاعرهم حيال أطروحات الآخر؛ ما ينتج، في الراهن، تواصلا يحتاج فترة من التراكم الإيجابي المتوقع أن يؤدي إلى إنضاج الوجدان الجمعي ودمقرطته. وتمتلك هذه المنصّة خبرة عربية رائعة سابقة، حيث مثلت بديلا للمؤسسة الحزبية في عالمنا العربي، وأدت مجمل أدوار المؤسسة الحزبية من تجميع المصالح العامة، وإنضاج الحوار بشأنها، والتعبير عنها، وحشد الجماهير خلفها، وتنظيم الفعاليات بخصوصها. المهم أنه رغم الهزائم المرحلية لمشروع ثورة يناير في بعض الدول العربية، ومنها مصر مثلا، إلا أن هذه الهزائم دفعت قطاعا من المثقفين إلى اختيار هذه المنصة مجدّدا لتأدية دور جديد يناسب المرحلة. وبقدر ما كان دورها خلال مستهل الربيع العربي بديل الحزبية المأزومة والمفتقدة، فإن مستخدمي المنصة اختاروا لها اليوم أن تقوم بدور إذكاء الوعي الذي يعد المتغير الأكثر بروزا في غيابه عن المشهد؛ على الرغم من أهميته.
ومن جهة ثالثة، وفي سياق علاقة منصّة فيسبوك بمستخدميها، فإن أخطر ما في ملف “إيكونوميست”، ذلك الموضوع الخاص بالتجارب التي تجريها المنصّة على مستخدميها، حيث عالج أحد المقالات دراسةً أعدّها باحثون من الأكاديمية الأميركية الوطنية للعلوم، والتي تناولوا فيها بالدراسة خبرة تلاعب المنصة بخدمة تدفق الأخبار، وتحكمها في ما يشاهده قطاع من المستخدمين من أخبار دوائر علاقاتهم، وهي دراسة أجرتها المنصة على 690 ألف مستخدم
في أسبوع واحد من شهر يناير لعام 2012. وركزت الدراسة التي تابعها الباحثون على عواطف المستخدمين، وتأثير تدفق نوعية معينة من الأخبار على حالتهم النفسية، وأثرها لاحقا في توجهات سلوكهم على المنصة في أعقاب هذا التعرّض. وهي دراسة تتم بالطبع وفق اتفاقيةٍ بالغة التعقيد، يراها المستخدمون طويلةً ومملة، لكنهم وافقوا عليها في عجالةٍ، لرغبتهم في إنجاز عضويتهم في هذا النادي العالمي الثري.
ثمّة في العالم العربي مراصد حكومية متعدّدة معنية برصد “الرأي العام الافتراضي” وتحليله، كما أن ثمّة شركات خاصة عديدة تعمل في المجال نفسه، وهي شركاتٌ تلجأ إليها الحكومات الأجنبية والشركات الكبرى، للتعرف على المناخ السياسي في البلاد المختلفة التي تفرط في الاحتراز حيال السماح بهذا النوع من الدراسات. كما تلجأ حكوماتٌ عربية لهذه الشركات لتكون متعهدا خارجيا يكفيها مؤونة استقدام عمالة وتضخيم جهاز الدولة، حيث لا تكلفها هذه الشركات أكثر من قيمة التعاقد لمراقبة الرأي العام. وعلى صعيد ثالث، فإن بعض هذه المراصد والشركات لا تهتم بالبعد السياسي لهذه المساحة من البيانات، وتُعنى أكثر بتوفير دراساتٍ بشأن السوق الافتراضية، ويعمل بعضها في خدمة العملاء، وبحث رضاهم الذي بات من أهم مؤشرات جودة الأداء الخدمي وحتى السلعي. بالنسبة لهذه المراصد والشركات، يعد التفاعل على منصات التواصل الاجتماعي ثروة. وعلى الرغم من أن بعض خدمات هذه الشركات مقلقة، فإن الأمر يكون أكثر مدعاة للقلق، حين تكون الشركة التي تباشر هذا النشاط البحثي نفسها الشركة التي توفر منصة التواصل الاجتماعي، حيث تجثم هذه الشركات على حجم هائل من “البيانات الضخمة” التي يسيل لنتائجها لعاب أكبر الفاعلين الدوليين والإقليميين. وما يثير القلق أكثر أن هذه الشركة تقوم بتجارب على مستخدمي منصّاتها، ويثور التساؤل: لصالح من؟ وكيف يمكن التأكد من غاية هذا الجهد البحثي؟ في تقديري أن الأوْلى بالحلول في بؤرة النقاش الدائر في الغرب هو القضية الخاصة بدوافع الشركات المالكة منصات التواصل حيال إجراء التجارب على مستخدمي منصّاتها، فضلا عن المستفيدين من تلك الدراسات.
المصدر: “العربي الجديد”.