تمر السنون تلو السنين، والأيام تتعاقبها الأيام وينجلي ليلٌ ويطلع نهارٌ، وتضيء الطريق المستقيم للسائرين على طريق رب العالمين، وتتدافع سحب الرحمة في هذه الشهور الجليلة لتتنزل بفيض الرحمة من رب العالمين، وترسل بومضات نورانية لتذكير العباد باقتراب شهر الله الكريم رمضان، هذا الشهر الذي ينتظره الجميع ما بين عابد وما بين محتفل وما بين لاه.
إن شعبان محطة مهمة من محطات الوصول لرمضان، يذكر العباد باقتراب الشهر، فلا يفاجأ العبد بهلال أول أيام رمضان فيضيع منه بدايات شهر رمضان، كمن يقود سيارة في طريق إذا كان عالماً بدروبه ومطباته أمن شره، فلا يفاجأ بمطب يخرجه عن شعور ويزهق روحه.
فشعبان يرسل الصرخات تلو الصرخات منذر العباد بالاستعداد حتى لا يفاجؤوا، وهكذا كان العلماء يتعاملون مع شهر شعبان ولياليه قبل أن يصلوا لرمضان.
شهر شعبان هو شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني؛ يقبل عليه المسلم ليكون مؤهلاً للطاعة في رمضان، فيقرأ في شهر شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه، ويجهِّز برنامجه في رمضان ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان، فيحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات، ويجعل هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس بمثابة دفعة قوية وحركة تأهيلية لمزيد من الطاعة والخير في رمضان.
إن ليلة النصف من شعبان تطرق أبوابنا من كل اتجاه، فلنعمل جاهدين على رفع الهمم، والتجهز بأسلحة الإيمان استعداداً لصيحات المنادي يا عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (المتوفى: 204هـ: وبلغنا أنه كان يقال: إن الدعاء يستجاب في خمس ليال في ليلة الجمعة وليلة الأضحى وليلة الفطر وأول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان (الأم :1264).
وقال تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني: وَأَمَّا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَفِيهَا فَضْلٌ، وَكَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يُصَلِّي فِيهَا (الفتاوى الكبرى 5344).
لم تكن ليلة النصف من شعبان المقصودة بالعبادة لذاتها لكنها ومضة تذكيرية لكي يسارع الجميع بالتخفف من هموم الدنيا، والتطهر الحسي والقلبي حتى إذا وقف العبد بين يدي ربه في أيام الرحمة والتي تتبعها أيام المغفرة قبل أن يختتم الشهر بأيام العتق من النار ويوزع فيه الله الرحمات والمغفرة التامة على عبادة في نهاية الشهر، شعر العبد بالمكسب العظيم قبل أن يبكى ندما على خسران وضياع الشهر ولا يدري أيكون من رواده في العام المقبل أن يكون أخر شهر صوم له على قيد الحياة.
يستحب للإنسان في هذا الشهر أن يعود نفسه على كثرة صلاة النوافل، ويحاول الإطالة فيها ما استطاع حتى لا يتململ من التراويح ويستثقلها، بل يكثر النوافل في رمضان، فإن أجور العبادات فيه تضاعف على ما سواه لشرف الزمان.
فالمسلم، لا ينبغي له أن يغفُلَ عن الله حينَ يغفُل الناسُ، بل لا بُدَّ أن يكونَ مُتيقظًا لربِّه سبحانه وتعالى غيْر غافلٍ، فأنت المقبلُ حالَ فِرارِ الناس، وأنت المتصدِّقُ حال بُخْلِهم وحِرْصهم، وأنت القائمُ حالَ نومِهم، وأنت الذاكرُ لله حالَ بُعْدِهم وغَفْلَتِهم، وأنت المحافظُ على صلاتك حالَ إضاعتهم لها.
فرجب إن كان شهر الغرس (كما قالوا)، وشعبان شهر السقي، ورمضان شهر الحصاد.
مَضَى رَجَبٌ وَمَا أَحْسَنْتَ فِيهِ .. .. وَهَــذَا شَهــْرُ شَعْــبَانَ الْمُبَارَكْ
فَيَا مَنْ ضَيَّعَ الأَوْقَاتَ جَهْــلاً .. .. بِحُرْمَتِهَا أَفِــقْ واحْــذَرْ بَوَارَكْ
فَسَــوْفَ تُفَــارِقُ اللَّذَاتِ قَهْرًا .. .. وَيُخْلِي الْمَوْتُ قَهْرًا مِنْكَ دَارَكْ