على غير رغبة السلطة الفلسطينية التي تمنت صعود تحالف يمين الوسط بقيادة قائمة الجنرالات، وكما هو متوقع صعد اليمين الديني والعلماني بجرعة تطرف أكثر من الحكومة المنصرفة في انعكاس للمزاج العام الإسرائيلي ومواقفه من القضية الفلسطينية، رغبة السلطة لم تكن قناعة في تمايز تيار يمين الوسط في الموقف من مشروع التسوية وإمكانية استئناف العملية التفاوضية على أسس جديدة، ولكن السلطة وبعد أن هدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كل أشكال السيادة بمحدوديتها، وكل الأسس التي قامت عليها عملية التسوية، بحاجة ماسة إلى فضاء سياسي، وإلى عناوين بمسحة وطنية ولو فارغة من المضمون، وإلى عملية بديناميكية معينة ولو لن تؤدي إلى أي نتيجة، لتبرر وجودها وتحافظ على شيء من شرعيتها على الأقل أمام الشعب الفلسطيني، حتى لو شكل نتنياهو حكومة وحدة وطنية بين حزب الليكود و قائمة أزرق-أبيض يمين الوسط في المستقبل نتيجة انفراط تحالف اليمين لسبب ما فإن نتنياهو أو من يخلفه سيفرض منطق اليمين ورؤيته فيما يخص القضية الفلسطينية وطريقة التعامل مع السلطة الفلسطينية.
ستواجه السلطة الفلسطينية عدة تحديات في المرحلة المقبلة، وهي تحديات مصيرية بما يحمله اليمين الإسرائيلي المتطرف من أجندات ورؤى تتعلق بحسم القضية الفلسطينية من خلال شطب المسائل المصيرية (القدس، اللاجئين، الحدود، المستوطنات)، مسنودة في ذلك من إدارة أميركية متصهينة لديها القليل مما تعرفه عن القضية الفلسطينية ولكنها منساقة بالكامل لصالح برامج أجندات أحزاب اليمين الصهيوني في إسرائيل، التحدي الأول يتمثل في مخطط صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية، والثاني في سياسات الأمر الواقع التي تسير بوتيرة متسارعة في الضفة الغربية والقدس.
مخطط صفقة القرن والتحدي الوجودي
من الواضح من التسريبات الصحافية، ومن بعض تصريحات الفريق الأميركي الذي أعد المخطط عن بعض فحوى صفقة القرن.. أن المخطط لا يعدو كونه إملاءً صهيونياً أميركياً لتصفية القضية الفلسطينية، ومن الواضح أيضاً أن هناك أطرافا عربية متواطئة في ذلك، وهو ما يؤشر على حجم التحدي الذي ستواجهه السلطة في حال الإعلان عن الصفقة المتوقع في الصيف القريب، وبالتأكيد فإن السلطة ستعلن موقفها المتوقع برفض الصفقة جملةً وتفصيلاً، وقد يقوم الرئيس الفلسطيني محمود عباس ببعض التحركات السياسية من قبيل دعوة الجامعة العربية للانعقاد، ورفع وتيرة الاتصالات والتشاور مع ملك الأردن عبدالله الثاني، والسعي على الصعيد الأوروبي لاستصدار قرار عن المفوضية برفض الصفقة، أو اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا يوجد لدى السلطة أكثر من ذلك إلا إذا لجأت إلى قلب الطاولة على الجميع بتطبيق قرارات المجلس المركزي التي تم إقرارها قبل أكثر من عام ونصف العام، وعلى رأسها وقف التنسيق الأمني، أو التوجه نحو المصالحة بروح ورؤية جديدة على قاعدة إنقاذ المشروع الوطني والتصدي لصفقة القرن وتبعاتها، ولكن بالنظر إلى سلوكيات السلطة خلال السنوات الماضية فمن المستبعد أن تقدم على خطوات متقدمة كهذه، لأن الرد الإسرائيلي قد يؤدي إلى نهاية السلطة.
ولكن الأمر لا يتوقف عند مجرد رفض السلطة لمشروع صفقة القرن، فاليمين الإسرائيلي استعد لهذه الخطوة، برد لا يتجاوز جوهر الصفقة، فمن المتوقع، وهو ما لمح به نتنياهو في خضم الدعاية الانتخابية وبعض أعضاء حزب الليكود الحاكم، إقدام حكومة اليمين المقبلة بدعم ترامب وإدارته، على ضم الجزء الأكبر من الضفة الغربية تحت قانون “فرض القانون المدني الإسرائيلي على المواطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية”، وتبلغ مساحته حوالي 61% من مساحة الضفة الغربية، وهي المساحة التي تضم شبكة المستوطنات ومحيطها في الضفة، والمناطق المصنفة عسكرية، بالإضافة إلى غور الأردن الذي يشكل حوالي 28% من مساحة الضفة الغربية الإجمالية.
سياسة الأمر الواقع في الضفة والقدس
بغض النظر عن صفقة القرن ومضمون ما يمكن أن تأتي به، وسواء أتم الإعلان عنها أم لا، فإن هناك مخططات أخرى تتعلق بالضفة الغربية والقدس تكاد تجمع عليها كل الأحزاب الإسرائيلية، رغم أن ائتلاف اليمين بقيادة نتنياهو أشرف على هذه السياسة منذ تسلمه الحكم عام 2009، وبما أن الحكومة المقبلة ستكون امتدادا لتحالف اليمين المتطرف السابق، فإن السياسة المقبلة بجوهرها الاستيطاني الديمغرافي الخاصة بالضفة والقدس ستأتي استكمالاً وبناءً على ما سبقها ولكن ربما بوتيرة أكبر وبشكل أكثر فظاظة دون أي اعتبار لرأي عام إقليمي أو دولي، أو القانون الدولي، أو تداعيات ذلك على السلطة الفلسطينية وقدرتها على الاستمرار.
تخطط إسرائيل أن يرتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس إلى نحو مليون مستوطن، مع العلم أن عدد المستوطنين في الضفة وصل مع نهاية عام 2018 إلى 448 ألف مستوطن، و220 ألفا في القدس في حوالي 250 مستوطنة وبؤرة استيطانية في الضفة والقدس.
وتقطيع أوصال الضفة الغربية إلى معازل وكانتونات بفعل المستوطنات والطرق الالتفافية، والمناطق العسكرية، وتحويل المناطق الفلسطينية إلى جزر متناثرة معزولة في دولة المستوطنين التي تتمتع بتواصل جغرافي وبشبكة ضخمة من الطرق والجسور والأنفاق.
وحسم قضية القدس، بتحويل الفلسطينيين إلى أقلية لا تتجاوز 12% في القدس بشقيها، واستكمال بناء جدار الفصل العنصري الذي سيترك خلفه 120 ألف فلسطيني في مخيم شعفاط وعناتا والرام وسميراميس وضاحية البريد، سيصار إلى إزاحتهم نحو الضفة الغربية.
تكريس واقع سياسي وديني للمسجد الأقصى جديد، بتقسيم زماني ومكاني بحيث يضمن للمستوطنين تواجدا دائما في المسجد الأقصى مع حرية إقامة شعائرهم التوراتية، وتخصيص أماكن محددة خاصة باليهود لا يسمح للمسلمين بدخولها.
إضفاء طابع يهودي توراتي على مجمل المدينة المقدسة، بشوارعها وبناياتها وأماكنها الدينية وحدائقها العامة، بتغيير الأسماء، وتشييد مجموعة من الكنس اليهودية حول المسجد الأقصى والبلدة القديمة، وإقامة الحدائق العامة على الساحات والأماكن التاريخية الإسلامية.
هذا بالإضافة إلى هدايا ترامب المتلاحقة لنتنياهو بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة في اعتراف رسمي أميركي بتعميم السيادة الإسرائيلية على كامل القدس التي من المفترض أن يكون الجزء الشرقي منها عاصمة للدولة الفلسطينية.
تفكيك السلطة الفلسطينية لم يعد خياراً مستبعداً
فائض التطرف وروح العنصرية لدى الأحزاب الإسرائيلية التي تتكئ على مجتمع يسود الخطاب الفاشي نخبه، مستلهماً ومستنداً إلى روح شعبوية صاعدة في الولايات المتحدة تسللت إلى أركان الإدارة الأميركية بنفس إنجيلي توراتي، أوجد أرضية لدى اليمين الإسرائيلي للسير في سلوك عدائي منفلت تجاه القضية الفلسطينية بشكل خاص والإقليم العربي بشكلٍ عام، لذلك فإن مخطط صفقة القرن والذي يتناغم مع مسار السياسة الإسرائيلية العملية على الأرض في الضفة الغربية والقدس منذ أكثر من عقد، وبغض النظر عن الإعلان عن الصفقة أم لا، سواء أقبلت السلطة بها أو رفضتها، فإن الإجراءات العملية ستفضى بعد سنوات قليلة إلى حشر الفلسطينيين في تجمعات منعزلة على أقل من 40% من مساحة الضفة الغربية، وسيتآكل معها دور السلطة الفلسطينية بقضم تدريجي لأي شكل أو رمز سياسي سيادي، واختزالها في إدارة ذاتية بصلاحيات خدماتية أقرب إلى البلديات تدير الشأن الحياتي الاقتصادي اليومي مع بُعد أمني يقتصر على التنسيق لحفظ أمن الإسرائيليين، وربما تقسيم الضفة إلى إقطاعيات بعد رحيل الرئيس عباس لأي سببٍ كان، يتولى إدارتها شخصية أمنية أو عشائرية أو تنظيمية يتمتع بنفوذ مناطقي أو عائلي أو إسرائيلي، وحينها تكون السلطة قد انتهت عملياً في الضفة الغربية.
—-
* المصدر: العربي الجديد.