جاء الإسلام فقرر مبدأ الحرية، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلمته المشهورة في ذلك: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. وقال علي بن أبي طالب في وصية له: لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرًا. فالأصل في الناس أنهم أحرار بحكم خلق الله، وبطبيعة ولادتهم هم أحرار، لهم حق الحرية، وليسوا عبيدًا.
جاء الإسلام فأقر الحرية في زمن كان الناس فيه مستعبدين: فكريًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، ودينيًا، واقتصاديًا، جاء فأقر الحرية، حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد، أهم الحريات التي يبحث عنها البشر.. جاء الإسلام وهو دين فأقر الحرية الدينية، حرية الاعتقاد؛ فلم يبح أبدًا أن يكره الناس على اعتناقه، أو اعتناق سواه من الأديان، وأعلن في ذلك قول الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) هذا في العهد المكي، وفي العهد المدني جاء في سورة البقرة: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256) وسبب نزول هذه الآية يبين لنا إلى أي مدى وصل الإسلام في تقديس الحرية، وفي تكريم هذا المعنى، وتأكيد هذا المبدأ، فقد كان الأوس والخزرج في الجاهلية إذا امتنعت المرأة من الحمل فنذرت إذا ولدت ولدًا هودته، أي جعلته من يهود، وهكذا نشأ بين الأوس والخزرج هاتين القبيلتين العربيتين بعض أبناء يهود، فلما جاء الإسلام وأكرمهم الله بهذا الدين وأتم عليهم نعمته، أراد بعض الآباء أن يعيدوا أبناءهم إلى الإسلام دينهم، ودين الأمة في ذلك الحين، وأن يخرجوهم من اليهودية، ورغم الظروف التي دخلوا فيها اليهودية، ورغم الحرب التي بين المسلمين وبين اليهود، لم يبح الإسلام إكراه أحد على الخروج من دينه وعلى الدخول في دين آخر ولو كان هو الإسلام. فقال: {لا إكراه في الدين} في وقت كانت الدولة البيزنطية تقول: إما التنصر وإما القتل. وكان المصلحون الدينيون في فارس يتهمون بأشنع التهم، وهكذا…
مبدأ من السماء
لم يكن مبدأ الحرية قد جاء نتيجة تطور في المجتمع، أو ثورة طالبت به، أو نضوج وصل إليه الناس، وإنما مبدأ أعلى من المجتمع في ذلك الحين.. جاء مبدأ من السماء، ليرتفع به أهل الأرض، جاء الإسلام ليرقى بالبشرية بتقرير هذا المبدأ، مبدأ حرية الاعتقاد، وحرية التدين.
ولكن هذا المبدأ الذي أقره الإسلام مشروط ومقيد أيضًا بألا يصبح الدين ألعوبة في أيدي الناس.. كما قال اليهود {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} (آل عمران: 72) آمنوا الصبح وفي آخر النهار تولوا: لقد وجدنا دين محمد صفته كذا وكذا.. فتركناه، أو آمنوا اليوم واكفروا غدًا.. أو بعد أسبوع.. شنعوا على هذا الدين الجديد.. أراد الله سبحانه ألا يكون هذا الدين ألعوبة، فمن دخل في الإسلام بعد اقتناع وبعد وعي وبصيرة فليلزمه وإلا تعرض لعقوبة الردة. فالحرية الأولى حرية التدين والاعتقاد.
حرية التفكير
أما الحرية الثانية فهي حرية التفكير.. والنظر.. فقد جاء الإسلام يدعو الناس إلى النظر في الكون، وإلى التفكير {إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا} (سبأ: 46)، {قل انظروا ماذا في السموات والأرض} (يونس: 101) {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج: 46) حمل الإسلام حملة شعواء على الذين يتبعون الظنون والأوهام وقال: {إن الظن لا يغني من الحق شيئًا} (النجم: 28) وعلى الذين يتبعون الهوى وعلى الذين يقلدون الآباء، أو يقلدون الكبراء والرؤساء، حمل أولئك الذين يقولون يوم القيامة: {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} (الأحزاب: 67) وحمل على أولئك الذين يقولون: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} (الزخرف: 22) وجعلهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.. حمل على المقلدين والجامدين ودعا إلى حرية التفكير وإلى إعمال العقل وإعمال النظر، وصاح في الناس صيحته {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} (البقرة: 111).
واعتمد في إثبات العقيدة الإسلامية على الأدلة العقلية، ولهذا قال علماء الإسلام: “إن العقل الصريح أساس النقل الصحيح” العقل أساس النقل. فقضية وجود الله قامت بإثبات العقل، وقضية نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – إنما ثبتت بإثبات العقل أولا، فالعقل هو الذي يقول: هذا رسول، قامت البينة على صدقه ودلت المعجزات على صحة نبوته، ويقول العقل: هذا كذاب وهذا دجال ليس معه بينة، وليس معه معجزة. فهذا هو احترام الإسلام للعقل، وللفكر.
ومن هنا ظهر في الإسلام نتيجة للحرية الفكرية، الحرية العلمية، وجدنا العلماء يختلفون، ويخطئ بعضهم بعضًا، ويرد بعضهم على بعض، ولا يجد أحد في ذلك حرجًا. نجد في الكتاب الواحد: المعتزلي والسني، والكشاف لإمام معتزلي وهو الزمخشري نجد أهل السنة ينتفعون به، ولا يرون حرجًا في ذلك.. كل ما يمكن أن يأتي رجل من أهل السنة وعلمائهم كابن المنير يعمل حاشية عليه باسم “الانتصاف من الكشاف” أو يأتي إمام كالحافظ ابن حجر فيؤلف كتابه “الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف”.
وهكذا فكان العلماء ينتفع بعضهم بكتب بعض، وبآراء بعض، ورأينا اختلاف الفقهاء وسعة صدورهم في الخلاف بين بعضهم وبعض، هذا كله يدل على حرية الفكر وعلى الحرية العلمية في داخل الأمة الإسلامية.
حرية القول
وحرية القول والنقد أيضًا أقرها الإسلام، بل جعل ما هو أكثر من الحرية إذ جعل القول والنقد – إذا تعلقت به مصلحة الأمة، ومصلحة الأخلاق والآداب العامة – أمرًا واجبًا.. أن تقول الحق، لا تخاف في الله لومة لائم، أن تأمر بالمعروف، أن تنهي عن المنكر، أن تدعو إلى الخير، أن تقول للمحسن: أحسنت وللمسيء: أسأت. هذا ينتقل من حق إلى واجب إذا لم يوجد غيرك يقوم به. أو إذا كان سكوتك يترتب عليه ضرر في الأمة، أو فساد عام، حين ذاك يجب أن تقول الحق، لا تخشى ما يصيبك ” وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور ” هذا ما وصل إليه الإسلام.. ليس في الإسلام أن تكتم أنفاس الناس ولا أن يلجم الناس بلجام فلا يتكلموا إلا بإذن، ولا يؤمنوا إلا بتصريح، كما قال فرعون لسحرته: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} يريد ألا يؤمن الناس إلا إذا أذن، وألا يتكلم الناس إلا بتصريح من السلطات العليا.. لا..
جاء الإسلام فأباح للناس أن يفكروا.. بل أمرهم أن يفكروا، وأباح للناس أن يعتقدوا ما يرون أنه الحق، بل أوجب عليهم ألا يعتنقوا إلا ما يعتقدون أنه الحق وأوجب على صاحب العقيدة أن يحمي عقيدته ولو بقوة السلاح، وأمر المسلمين أن يدافعوا عن حرية العقيدة حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، بحد السيف، وبحد السلاح تحمى الحرية، ويمنع الاضطهاد حتى لا تكون فتنة، أي لا يفتن أحد في عقيدته وفي دينه. وقال الله تعالى في أول آية نزلت في شرعية القتال والجهاد في الإسلام {أذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا} قال فيها: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا} لولا أن قيض الله مثل المؤمنين المسلمين بسيوفهم يدافعون عن الحرية.
وعن الحريات العامة، ما استطاع أحد أن يعبد الله في الأرض، وما وجدت كنيسة، ولا بيعة ولا مسجد، ولا أي معبد يذكر فيه اسم الله كثيرًا، فهذا هو الإسلام، جاء بهذه الحريات.. جاء بالحرية ولكنها حرية الحقوق، وليست حرية الكفر والفسوق.
ضوابط الحرية
ليست الحرية التي يزعمونها اليوم حرية شخصية، هكذا يسمونها.. أي أن تزني وأن تشرب الخمر، وأن ترتكب الموبقات كما تشاء، ثم بالنسبة للأمور الأخرى التي تتعلق بالمصلحة ” لا حرية ” لا تنقد، لا تقل ما تعتقد، لا تقل للمحسن أحسنت، لا تقل للأعرج: أنت أعرج، لا.. إنما لك الحرية الشخصية.. حرية إفساد نفسك، إفساد أخلاقك، إفساد ضميرك، إفساد عبادتك، إفساد أسرتك، لك الحرية في ذلك.
إذا كان هذا هو معنى الحرية، فالإسلام لا يقر هذه الحرية، لأنها حرية الفسوق لا حرية الحقوق، إنما الإسلام يقر الحرية حرية التفكير، حرية العلم، حرية الرأي والقول والنقد، حرية الاعتقاد، والتدين، هذه الحريات التي تقوم عليها الحياة، حرية التعاقد حرية التصرف بما لا يؤذي أحدًا، حرية التملك بالشروط والقيود المشروعة، بدون ضرر ولا ضرار.. فهذه هي القاعدة العامة في الإسلام: ” لا ضرر ولا ضرار “. فأي حرية ترتب عليها ضرر لنفسك، أو ضرار لغيرك، يجب أن تمنع، ويجب أن تقيد في هذه الحالة فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك، أما أن تدعى الحرية ثم تدوس الناس، هذا لا يقول به أحد. لك حرية المرور في الطريق، ولكن على أن تلتزم آداب المرور، لا تصدم الناس، ولا تصدم السيارات، ولا تدس المشاة، ولا تخترق قوانين المرور، وهذا التقييد لحريتك، أن تقف والضوء أحمر، أو أن تمشي على الجانب الأيمن، أو غير ذلك، هذا التقييد من المصلحة العامة، وكل دين وكل نظام لابد أن يوجد فيه مثل هذه القيود، وهذا ما جاء به الإسلام، وهذا أفضل ما يمكن أن تصل إليه البشرية.
* المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (بتصرف).