أعلن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في 18 نوفمبر 2019، أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تعترف بالرأي القانوني القائل إنّ بناء إسرائيل “مستوطنات مدنية” في الضفة الغربية “يتعارض مع القانون الدولي”. ويعد هذا الإعلان استكمالًا للقطيعة التي بدأتها إدارة الرئيس دونالد ترمب مع السياسات التي حكمت المقاربة الأميركية الرسمية نحو ملف الصراع العربي – الإسرائيلي، عقودا طويلة، والتي بدأت بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واعتراف إدارة ترمب في ديسمبر 2017 بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال، ونقل السفارة الأميركية إليها، ثمّ اعترافها في مارس 2019 بقرار إسرائيل ضم هضبة الجولان عام 1981.
وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، وتحديدًا منذ عام 1978، كان الموقف الأميركي الرسمي يعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية “غير شرعية”، ثم “غير قانونية”، ثم “عقبة في طريق السلام”. والموقف الأميركي هذا مخالفٌ تمامًا للقانون الدولي ويشرعن الاستعمار. ورغم رفض العديد من دول العالم القرارَ الأميركي، فإن هذا القرار قد يمهد لإعلان إسرائيل ضمّ أجزاء واسعة من الضفة الغربية.
مضمون القرار
استنادًا إلى المسوغات التي ساقها بومبيو، فإنّ المواقف الأميركية الرسمية نحو النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية “لا تخدم السلام”. وخصّ بومبيو بالنقد رأيًا قانونيًا لوزارة الخارجية الأميركية، تحت إدارة الرئيس الأسبق، جيمي كارتر، صدر عام 1978، يقول إن إقامة إسرائيل “مستوطنات مدنية” في الضفة الغربية يتعارض مع القانون الدولي. كما غمَز بومبيو إدارة باراك أوباما التي أكدت عدم شرعية الاستيطان الإسرائيلي، عندما امتنعت عن استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لمنع صدور القرار 2334 الذي دانَ بناء إسرائيل للمستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية، واعتبر أنها غير شرعية، وأنها تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. وبناءً عليه، زعم بومبيو أنه “بعد دراسة جميع جوانب النقاش القانوني بعناية”، فإن إدارة ترمب تتفق مع تصريح للرئيس الأسبق، رونالد ريغان، عام 1981، رفض فيه الاستنتاج الذي خلصت إليه وزارة الخارجية عام 1978، وأنه لا يعتقد أن المستوطنات، من حيث التعريف، غير قانونية.
وفي هذا السياق أكد معطيات أربعة، هي:
- 1. إن إدارة ترمب ترى، كما تفعل المحاكم الإسرائيلية، أن الاستنتاجات القانونية المتعلقة بمستوطنات معينة بذاتها يجب أن تعتمد على تقييم للحقائق والظروف المحددة على الأرض؛ “ولذلك، فإن حكومة الولايات المتحدة لا تتبنى أي رأي بشأن الوضع القانوني لأي مستوطنة معينة”. واعتبر بومبيو أن “القانون الإسرائيلي يتيح الفرصة لتحدي النشاط الاستيطاني وتقييم الاعتبارات الإنسانية المرتبطة به”. وهذا، في الحقيقة، يُخضع القانون الدولي في سياق احتلال أراضي الغير للقانون المحلي في الدولة المحتلة.
- 2. إن قرار الإدارة هذا لا يتناول، أو يصدر، حكمًا مسبقًا على الوضع النهائي للضفة الغربية، وإنما الأمر متروك لمفاوضات الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. كما اعتبر أنّ “القانون الدولي لا يفرض نتيجة معينة، ولا يخلق أي عقبة قانونية لنتيجة تفاوضية”. والحقيقة أنه لا يبقى الكثير للمفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية بعد أن نسفت الإدارة الأميركية ما يسمى “قضايا الحل الدائم”.
- 3. “يستند الاستنتاج القائل إن الولايات المتحدة لن تعترف بعد الآن بأن المستوطنات الإسرائيلية تعارض القانون الدولي إلى الحقائق والتاريخ والظروف الفريدة التي نجمت عن إنشاء المستوطنات المدنية في الضفة الغربية”.
- 4. إن وَصْم المستوطنات المدنية الإسرائيلية بأنها متعارضة مع القانون الدولي لم يُؤدِّ إلى تحقيق السلام.
هشاشة المسوغات الأميركية
بحسب خبراء القانون الدولي فإن المسوغات التي استخدمها بومبيو لتبرير قرار إدارته لا تصمد أمام أي نقاش قانوني. ففيما يتعلق بزعمه عدم دقة الرأي القانوني لوزارة الخارجية عام 1978، لناحية تعارض إقامة إسرائيل “مستوطنات مدنية” في الضفة الغربية مع القانون الدولي، فإن العكس هو الصحيح، ذلك أن استنتاج الخارجية الأميركية عام 1978 منسجم بالكامل مع الموقف القانوني الدولي؛ إذ تحظر المادة التاسعة والأربعون من معاهدة جنيف الرابعة على أي “دولة احتلال” أن تقوم بعملية تهجير قسري، جماعي أو فردي، لمن هم تحت الاحتلال أو “نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيًّا كانت دواعي ذلك”. كما تنص المادة نفسها على أنه: “لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحِّل أو تنقل جزءًا من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها”. ويؤكد ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، كذلك، أن “الإبعاد أو التهجير القسري” لشعب تحت الاحتلال يُعدّ “جريمة حرب”، وكذلك “قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها”.
أمّا قول بومبيو إن موقف إدارة ترمب الجديد يتناغم مع موقف ريغان الرافض للخلاصة التي انتهت إليها وزارة الخارجية عام 1978، فهو أيضًا غير دقيق. صحيح أن ريغان كان قد تبنّى هذا الرأي شخصيًّا، إلا أن إدارته لم تتبنَّه؛ إذ بقي الموقف الرسمي الأميركي تحت إدارته هو الرأي القانوني نفسه لعام 1978.
أمّا حديثه عن أنّ ثمة نظامًا قضائيًا في إسرائيل يمكن اللجوء إليه لتحدي النشاط الاستيطاني، فهو أيضًا زعمٌ متهافت، ذلك أن المحاكم الإسرائيلية هي محاكم دولة الاحتلال نفسها، وهي وإن كانت قد قضت بعدم شرعية بعض “المستوطنات العشوائية” وضرورة إخلائها، فإنها أسبغت شرعية قضائية على كل المستوطنات الأساسية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وهذا ينطبق كذلك على قول بومبيو إن إدارته لا تحاول فرض تصور للحل النهائي في الضفة الغربية، وإن الأمر متروك لمفاوضات الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وما يدحض هذا الزعم أنّ السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، كان قد صرّح في يونيو 2019 بأنّ لإسرائيل حقَّ ضمّ بعض مناطق الضفة الغربية. وكان نتنياهو قد تعهد، في سبتمبر 2019 بضمّ غور الأردن والمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، ويبدو أنّ هذا التعهد قد يأخذ طريقه إلى التنفيذ بعد القرار الأميركي الأخير. ولا يختلف الأمر في زعم بومبيو أن بقاء النزاع حول المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية لن يجلب السلام، فإذا لم تكن الأرض والقدس واللاجئون والحدود هي القضايا المركزية للصراع، فماذا بقي إذًا للخلاف فيه والتفاوض حوله؟
دوافع القرار الأميركي وحساباته
تنقسم الأسباب والدوافع التي أمْلَت الموقف الأميركي الجديد إلى نوعين؛ النوع الأول خاص بحسابات سياسية لترامب، والنوع الآخر يتعلق بالمقاربة الكلية لإدارته.
- 1. إرضاء الجماعات الإنجيلية:
يهدف ترمب، تمامًا كما كان عليه الحال في موضوع القدس، إلى تعزيز فرصه الانتخابية عام 2020، وذلك من خلال محاولة استرضاء القاعدة العريضة للمسيحيين الإنجيليين الذين يدعمون اليمين الإسرائيلي لأسباب دينية. ويمثل الإنجيليون نحو 25% من الشعب الأميركي، وقد صوّت نحو 80% من البيض منهم لمصلحة ترمب في الانتخابات الرئاسية عام 2016. ويُعدّ بعض رموز إدارة ترمب من هذه القاعدة، مثل نائبه مايك بينس، ووزير الخارجية بومبيو، وغيرهما. وبالفعل، فقد لقي قرار إدارة ترمب بشأن المستوطنات إشادة كبيرة مِن قادة الإنجيليين الأميركيين.
- 2. استمالة اللوبي الصهيوني واليهود الأميركيين:
يحاول ترمب بهذه الخطوة استمالة اللوبي الصهيوني، خصوصًا في ظل التوتر القائم ما بين هذا اللوبي ودوائر في الحزب الديمقراطي من جرّاء تراجع التأييد لإسرائيل في صفوف الديمقراطيين، ولا سيما بين القاعدة الشبابية الأكثر ليبرالية للحزب.
- 3. محاولة دعم نتنياهو:
رغم نفي مسؤولين في إدارة ترمب أن يكون توقيت الإعلان مقصودًا لمساعدة نتنياهو الذي يكافح ليحتفظ بالسلطة بعد عمليتين انتخابيتين هذا العام لم تُسفرَا عن نتائج حاسمة، فضلًا عن أنه يواجه ملاحقة قضائية محتملة تتعلق باتهامات بالفساد، فإنّ المؤشرات الدالّة على قصدية ذلك التوقيت كثيرة. ويحتاج نتنياهو إلى تشكيل حكومة جديدة أملًا أن يَجري استصدار قانون من الكنيست يعطيه حصانة قانونية ضد أي تُهمٍ قد تصدر ضده. ومع فشل غريمه الرئيس، بيني غانتس، زعيم حزب “أزرق أبيض” في تشكيل تحالف حكومي، فإن إسرائيل قد تكون متجهة إلى انتخابات تشريعية ثالثة؛ ومن ثمّ قد يكون إعلان إدارة ترمب هذا محاولةً لتعزيز حظوظه في الانتخابات القادمة.
- 4. فرض معايير إطار الحل النهائي للصراع:
لقد زعم بومبيو في تصريحاته أن القرار الأخير لإدارته حول المستوطنات لا يهدف إلى فرض نتيجة مسبقة لمفاوضات الوضع النهائي حول الضفة الغربية، ولكن تبدو الحقيقة مغايرة لذلك؛ إذ إن القرار الأخير يندرج ضمن سلسلة من القرارات الأخرى التي تؤكد هذا المعطى. ومن الواضح أن إدارة ترمب تسعى لإعادة رسم ملامح الصراع، ووضع محددات جديدة لهذا الصراع على نحو يكون لمصلحة إسرائيل على حساب الفلسطينيين والعرب. وفي هذا الإطار، جاء قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ثمّ قطع التمويل عن الـ “أونروا”، وما تبعهما من وقفٍ لكل المساعدات عن الفلسطينيين، ثم القرار حول الجولان. فإدارة ترمب تقوم بتحييد ما تعتبره “عقبات” على طريق “حل” الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل. والحقيقة أنها تشرعن الوضع القائم، وتحاول إزالة العقبات أمام تكريسه. وكان ترمب قد فسَّر من قبلُ مسألة اعترافه بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، بقوله إنهما “شيء جيد قمت به، ذلك أننا أزلنا هذه العقبة من على طاولة المفاوضات”؛ بمعنى أنه يلغي موضوعات التفاوض. واليوم يكرر بومبيو الحجة نفسها في موضوع المستوطنات، فـ “وصف بناء المستوطنات المدنية بأنه يتعارض مع القانون الدولي لم يؤدِّ إلى نتائج، ولم يعزز هدف تحقيق السلام”.
خلاصة
يمكن القول إن إدارة ترمب ماضية في تنفيذ ما يطلق عليه إعلاميًّا اسم “صفقة القرن”، من خلال حسم مصير ما يُعرف بـ “قضايا الحل النهائي”؛ أي القدس واللاجئين والسيادة والأرض والحدود، من دون الحاجة إلى مفاوضات مع الطرف الفلسطيني، بل من خلال فرض أمر واقع عليهم، وبقوة الاحتلال. فإدارة ترمب لم تعُد تشير إلى الضفة الغربية بـ “المحتلة” منذ إبريل الماضي، وهي لا تخفي أيضًا تخلّيها عن حل الدولتين، وتركز عوضًا عن ذلك على مقاربة الاقتصاد أولًا، كما جرى في ورشة المنامة، في يونيو الماضي، وهو ما يكرس واقع نظام الفصل العنصري داخل كيان سيادي واحد (الأبارتهايد).
وفي موضوع المستوطنات تحديدًا، لا توجد مفاجأة حقيقية في القرار الأميركي، ذلك أن اثنين من المشرفين، أميركيًا، على ملف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية ووضع خطة السلام العتيدة، يُعدان من أكبر داعمي إسرائيل ونشاطاتها الاستيطانية، حتى قبل وصول ترمب إلى الرئاسة؛ وهما مستشار الرئيس وصهره جاريد كوشنر، والسفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان.
يبقى السؤال: كيف سيكون ردُّ السلطتين الفلسطينيتين في رام الله وغزة فيما يتجاوز بيانات الإدانة، وكذلك رد الفعل العربي؟
إنّ السلطات الفلسطينية مشغولة بالقضايا التي تهم أيّ سلطة حاكمة، وغالبية ما بقي من وقت وجهد يُبذَر في الصراع الداخلي بين سلطتَي حركتي فتح وحماس.