قبل ان يقوم مجموعة من العسكريين بانقلاب عسكري في دولة “مالي” ذات الاغلبية المسلمة (95% مسلمون) يوم 19 أغسطس الجاري 2020م، كان الامام “محمود ديكو” زعيم أبرز التيارات الاسلامية الوسطية المعتدلة يقود المعارضة ضد الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، ويطالب بإسقاط حكمه.
لهذا تساءلت مجلة “لوبوان” الفرنسية عما إذا كانت المكانة المرموقة التي تمكن الإمام محمد ديكو من بلوغها في التحرك المعارض الحالي الواسع المطالب باستقالة الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا، كانت سببا في الانقلاب؟ وهل سيجعله الانقلاب يتقلد زمام الأمور في نهاية المطاف لتسقط الثمرة في حجر الإسلاميين؟
بالمقابل قال خبراء أفارقة: إن الانقلاب ربما جاء لإجهاض صعود التيار الاسلامي، خصوصا أن تقارير غربية تحدثت عن ولاء قادة الانقلاب تارة لأمريكا وتارة لروسيا وأنهم تلقوا تدريباتهم العسكرية في موسكو وواشنطن، ولهما مطامع في السلطة ستجعلهم يعادون التيار الاسلامي وكافة أطياف المعارضة.
فقد قاد الامام “ديكو” الحراك الشعبي والمظاهرات ضد الرئيس المخلوع “كيتا”، وتمكن من حشد جماهير واسعة للإطاحة بكيتا، ما دفع مراقبون للتساؤل: هل سيستولي الإسلاميون على السلطة في باماكو؟
العلماء يقودون المعارضة
لمناقشة هذه القضية، أوردت “لوبوان” تحليلا للباحثين الماليين الأستاذ “بوبكر حيدرة” من جامعة بوردو والدكتور “لامين سافاني” من جامعة موبليي، وكلا الأكاديميين يقدمان محاضرات بجامعة سيغو في مالي، حيث أكد الباحثان أن الجماهير المالية التفت حول الإمام بعد أن بدأ يشجب بشدة التسيير الكارثي للبلد، مما جعل الماليين ينظرون إليه بوصفه أداة الحرب على الفساد وعلى السياسات التي خانت الشعب.
ولفتا إلى أن “الإمام” اكتسب شهرته كرئيس للمجلس الإسلامي الأعلى (2008-2019) من خلال النضالات السياسية المختلفة التي خاضها في هذا السياق بحكم منصبه، فقد كانت له معركة ضد قانون الأسرة بين عامي 2009 و2011، كما تدخل لحل الأزمة المالية منذ عام 2012، وكذلك لعب دورا بالانتخابات الرئاسية عام 2013، وعارض إدخال التربية الجنسية في المناهج التعليمية عام 2019، وقضايا أخرى مختلفة.
وحصد الامام شعبية كبيرة لوقوفه مع القضايا الجماهيرية في وقت انعدمت فيه ثقة السكان في القوي السياسية الموجودة على الساحة والطبقة السياسية، فبرز هنا دور الامام كعالم اسلامي له حضور وموقف قوي، وأثبت مع غيره من علماء المسلمين في مالي أنهم الوحيدون القادرون على حشد الجماهير، مما جعل قادة أحزاب المعارضة كذلك يلتفون حولهم بدوره.
وكان حشد الامام “ديكو” للشعب وتشكيله ائتلافا معارضا ناجحا في حشد الماليين للخروج إلى الشوارع والمطالبة بتنحي الرئيس، وأظهر حجم التعبئة الذي تمكن ديكو من تحقيقه أنه زعيم المعارضة بلا منازع بعدما شكل مع المعارضة تحالفا أطلقوا عليه “احتجاجات 5 يونيو لتحالف القوى الوطنية (M5-RFP)”.
وما أعطي الامام ديكو مصداقية أكبر لدي الشعب أنه سبق ان دعم ترشيح الرئيس المخلوع في انتخاب الرئاسة عام 2013، ولكنه حين وجده غير جدير بالرئاسة انقلب عليه وعارضه، بل واعتذر للشعب في خطابه أمام الجماهير في 5 يونيو الماضي عن دعمه لكيتا مؤكدا أن تزعمه للحراك ضده حتى انقلاب الجيش جاء لتصحيح ذلك الخطأ.
وقد عبّرت المعارضة المالية، عن ترحيبها بالانقلاب العسكري، معتبرة أنه “جاء ليكمل كفاحها من أجل رحيل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا” وأكدت المعارضة، المنضوية في أحزاب وحركات، أنها “مستعدة للتعاون مع اللجنة العسكرية على وضع تصور للمرحلة الانتقالية”، مضيفة أنها “اطلعت على التزام اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب ببدء مرحلة انتقالية سياسية ومدنية، وأنها ستتخذ التدابير اللازمة كلها لوضع خريطة طريق بالتشاور مع الجيش والقوى الحية في البلد”.
الامام “صانع الملوك” ينسحب!
المثير للدهشة أن الامام ديكو وعلى عكس التصورات الغربية أعلن انسحابه من الحياة السياسية بعد سقوط الرئيس وقيام الانقلاب العسكري، ولم يحاول “ديكو” تسلم زمام السلطة، واكتفى بأنه طالب بسلطة أخلاقية بعيدة عن النزاع والمناكفات لكنها سلطة ذات رأي واضح.
ويقول الخبراء الماليين: إن الأمام ديكو يبدو أنه مدرك عن وعي أن دور المشرف على اللعبة السياسية الذي يلعبه بشكل جيد للغاية يناسبه بشكل أفضل من دور اللاعب السياسي بشكل مباشر، وسيساهم، كما فعل بالماضي، في دعم الشخصية التي يراها مناسبة، وهو في الوقع قادر على وضع الشخص الذي يختاره على رأس السلطة.
ورغم أن ديكو لا يُبدي رغبة في ممارسة السياسة أو الوصول إلى الحكم، فإنه في الوقت ذاته أدى دور “صانع الملوك”، أي أن يكون هو من يختار الرئيس وأعوانه، وهذا ما حدث مع كيتا قبل احتجازه وإسقاطه.
إذ يُعتبر الشيخ محمود ديكو داعياً إسلامياً، وهو من رموز التيار الإصلاحي في مالي، وهو إمام أحد أهم مساجد العاصمة باماكو، كما ترأّس المجلس الإسلامي الأعلى بمالي، الذي يُعنى بالبتِّ في الشؤون الدينية، لأكثر من 10 سنوات متتالية.
تقول صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية: إنّ باريس كانت تشعر بحالة من القلق حيال الحركة الاحتجاجية التي يقودها الإمام ديكو، إذ اندلعت هذه الاحتجاجات في الوقت الذي بدأت فيه باريس بتحقيق “انتصارات نوعية” ضد الجماعات الجهادية، بالإضافة إلى فشل كل الوساطات على يد أطراف متعددة منها الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، التي التقت الرئيس كيتا، وقادةُ حراك “5 يونيو” لإنهاء هذه الاحتجاجات، لكن دون جدوى.
وحاولت باريس مؤخراً إيصال رسائل وتحذيرات مبطّنة إلى ديكو وقادة الحراك ضد الرئيس كيتا، خلاصتها أن “أي تغيير في مالي يجب أن يكون تحت عين باريس”، وهو أمر يرفضه الحراك وزعيمه ديكو، المناهض بقوة للوجود الفرنسي في بلاده.
وبعد الانقلاب على كيتا، قال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، إن “فرنسا أبلغت بقلق بأمر التمرد الذي حصل في مالي، وتدين بشدة هذا الحدث الخطير”، مؤكداً أن باريس “تشاطر المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا الموقف الذي عبّرت عنه، ودعت فيه إلى حماية النظام الدستوري”.
وشغل ديكو العديد من المناصب والمسؤوليات في بعض المؤسسات الدعوية والخيرية في البلاد، فقد تقلّد منصب الأمين العام لـ “جمعية مالي للاتحاد وتقدم الإسلام”، وهي أول جمعية إسلامية بالبلاد أُسست عام 1980، وتهدف إلى تعزيز وحدة المسلمين بالبلد، وتمويل بناء المساجد والمدارس القرآنية، كما تقوم بالوساطة والتهدئة أثناء الأزمات السياسية والاجتماعية.
ويعتبر محمود ديكو أحد أتباع المدرسة السلفية العلمية، وقد تأثر بالفكر السلفي أثناء دراسته في السعودية، وهو ما أهّله لأن يؤدي دوراً كبيراً في حركة الإصلاح والتجديد الفكري في بلاده، وكانت هذه الخلفية الفكرية سبباً في علاقته بإياد آغ، زعيم حركة أنصار الدين السلفية، التي كانت تسيطر على أجزاء من شمال مالي قبل تدخل القوات الفرنسية والأفريقية مطلع 2013 لطرد الجماعات الإسلامية المسلحة من شمالي البلاد.
وقد تزعم ديكو الحراك الاحتجاجي الذي قاده الأئمة والدعاة في البلاد 2009، لإسقاط مدونة الأحوال الشخصية التي اعتبروها مخالفةً في الكثير من موادها لأحكام الشريعة الإسلامية، وبرز خلال التسعينيات عندما انتقلت مالي إلى الديمقراطية، وأصبح معروفاً بقدرته على التحدث علناً عن مسائل الدين والحوكمة، وفي بعض الأحيان السياسة الدولية.
ومنذ يونيو 2019، أصبح الإمام ديكو رمزاً للكفاح اليومي المستمر من أجل إسقاط النظام. وقال سويو ديك، أحد قادة الاحتجاج، إن “الإمام ديكو كان واضحاً في مساعيه، إنه لن يترشح لأي شيء، وإنما يريد لمشكلات سوء التسيير أن تجد حلاً، وهو لن يتقدم للانتخابات الرئاسية لأنه لا يبحث عن السلطة”.