نتناول في هذه الحلقة من نصوص حضارية، النص الحضاري للإمام محمد عبده (1849- 1905م)، في محاولة للوقوف على العلاقة بين حالة الأمة، وفكر الجمود والتقليد، وسبل التخلص من هذه الحالة ببعث تصور الإسلام للعقل، وحفزه إلى الحركة والتجديد.
تعليق على النص
رأى محمد عبده أن أزمة الأمة في جانب أصيل منها، هي أزمة العقل المسلم، الذي أصيب نشاطه بالجمود، فتوقف عن الحركة والعطاء والتجديد الحضاري، وقبع في مرحلة ما بعد الحضارة، هذا الجمود رآه تفسيرًا “داخليًا” و”ذاتيًا” لحالة التراجع والتقهقر الحضاري للأمة. و”الجمود” في اللغة ضد: الحركة، والتدفق، والخصب، والنماء، والجود. ويقصد بجمود العقل هنا: أن العقل المسلم قد توقف وثبت في مكانه ولم يَعُد قادرًا على الحركة والتدفق الفكري بما أفقده النماء والخصب المنتظر الناتج عن إعمال العقل في النظر في دينه ومتطلبات معاشه. وغياب “حركة العقل” أنتجت هذا “الجمود” الذي هيمن على الحياة الفكرية والاجتماعية للمسلمين فأصابها “السكون” و”اللا فعل” و”اللا عمل”.
من مجالات الجمود التي ذكرها محمد عبده: الجمود في اللغة، أو ما يمكن وصفه بالأزمة اللغوية المعرفية، فاللغة ليست فقط أداة تعبير ولكنها – أيضًا- وعاء تفكير، ويري علماء اجتماع اللغة أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين حالة اللغة وحال المجتمع، ثم الجمود في الفقه غلق باب الاجتهاد وغياب “العقل المسلم” عن النظر والاستنباط في مصادر التشريع (القرآن والسنة) والركون، بل والانكفاء والتسليم الكامل لفقه أدي دوره في سياقات اجتماعية مختلفة أُنشئ من أجلها وليس من أجلنا نحن، ومن ثم فإن وقوع “العقل المسلم” في أسر “الماضي الفقهي” وفي “كهفه” أدي إلي انحسار الشريعة، وفقدان الثقة بها والتماس الحق في غيرها، وسمى ذلك “الجمود في الشريعة”.
اعتبر – الإمام – “الجمود الفقهي” أكثر أشكال الأزمة الحضارية خطورة، وذلك لأنه يؤدي إلي “الانفصال” المزدوج، الأول : انفصال المسلم عن عقيدته التي يري فيها ضعفًا لحل مشكلاته الحيوية المعاصرة والمعاشة واللجوء إلي غيرها للحصول علي هذا “الحل” أو “الحق” ، والثاني :الانفصال عن الواقع المعاش والتخلف عنه لصالح واقع آخر يبعد عنه عشرات القرون؛ لذا فإن “محمد عبده” يري ضرورة الفصل بين الوحي والتراث البشري من ناحية الارتباط بالعبادة والتقديس، “لابد من التفريق بين التراث البشري، والوحي الإلهي الذي كان مصدر نشوء وانطلاق هذا التراث في فترة التكوين”. ([1])
أما “الجمود في التعليم” فقد أنشأ لنا أنماطًا متعددة من التعليم: الديني، والمدني، والأجنبي، وكل من هذه الأنماط قد أضر الأمة إما في عقيدتها أو معارفها وعلومها أو في شخصيتها وطريقة تفكيرها. ثم أشار إلى حالة “الأمة” التي رأى في تفرقها وتمزقها أكبر جنايات “الجمود” عليها، ذلك الجمود الناتج عن عاملين: الأول: التمذهب الذي فرق الأمة ومزق أواصر وحدتها ويقول في ذلك “وأعظم ما في هذه الجناية -أي الجمود على الاجتماع الإسلامي- جناية التفريق وتمزيق نظام الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في الدين”. أما العامل الثاني فهو انفصال شرط “الأعلمية” و”الفقاهة” في الدين عن الرياسة السياسية “.
يوضح هذا النص طريقة الإسلام في التعامل مع فكر الجمود ومآله، وكيف أن الجمود والحجر على الفكر حول أسباب السعادة الإلهية التي أرسلها الله إلى البشر إلى أسباب للشقاوة والجهل، وكيف رفع الإسلام عن العقل صور الدجالة والحجر والكهانة التي مارسها البعض باسم الدين تارة وباسم السلطة تارة أخرى، وهذا النص يمثل دفعة للعاملين والمربين نحو إعداد العقل للإقلاع الحضاري وفق العمل على تحرره من أسر القيود والتقليد غير المبصر، وعوامل التبديد التي أطاحت بقوته وطاقته.
النص الحضاري
حرية الفكر والتجديد
أنحى الإسلام على التقليد وحمل عليه حملة لم يردها عنه القدر فبددت فيالقه المتغلبة على النفوس واقتلعت أصوله الراسخة في المدارك ونسفت ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم صاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته وهبت به من نومه طال عليه الغيب فيها كلما نفذ إليه شعاع من نور الحق خلصت إليه هينمة[2] من سدنة هياكل الوهم نم فان الليل حالك والطريق وعرة والغاية بعيدة والراحلة كليلة والأزواد قليلة.
ذم التقليد
علا صوت الإسلام على وساوس الطغام وجهر بأن الانسان لم يخلق ليقاد بالزمام ولكنه فطر على أن يهتدى بالعلم والاعلام، أعلام الكون ودلائل الحوادث وإنما المعلمون منبهون ومرشدون وإلى طرق البحث هادون، ما دون صرح في وصف أهل الحق بأنهم )الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ( فوصفهم بالتمييز بين ما يقال من غير فرق بين القائلين ليأخذوا بما عرفوا حسنه ويطرحوا ما لم يتبينوا صحته ونفعه ومال على الرؤساء فأنزلهم من مستوى كانوا فيه يأمرون وينهون ووضعهم تحت أنظار مرؤوسيهم يخبرونهم كما يشاءون ويمتحنون مزاعمهم حسبما يحكمون ويقضون فيها بما يعلمون ويتيقنون لا بما يظنون ويتوهمون، صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء وما توارثه عنهم الأبناء وسجل الحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السابقين، ونبه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان ولا مسميًا لعقول على عقول، ولا لأذهان على أذهان، وإنما السابق واللاحق في التمييز والفطرة سيان بل للاحق من علم الأحوال الماضية واستعداده للنظر فيها والانتفاع بما وصل إليه من آثارها في الكون مالم يكن لمن تقدمه من أسلافه وآبائه.
النظر والسير في السابقين فرض على اللاحقين
قد يكون من تلك الآثار التي ينتفع بها أهل الجيل الحاضر ظهور العواقب السيئة لأعمال من سبقهم وطغيان الشر الذى وصل إليهم بما اقترفه سلفهم )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( وإن أبواب فضل االله لم تغلق دون طالب، ورحمته التي وسعت كل شيء لن تضيق عن دائب عاب أرباب الأديان في اقتفائهم أثر آبائهم ووقوفهم عند ما اختطته لهم سير أسلافهم وقولهم ) إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ( فأطلق بهذا سلطان العقل من كل ما كان قيده، وخلصه من كل تقليد كان استعبده ورده إلى مملكته يقضى فيها بحكمه وحكمته مع الخضوع مع ذلك لله وحده، والوقوف عند شريعته، ولا حد للعمل في منطقة حدودها، ولا نهاية للنظر يمتد تحت بنودها.
استقلال الإرادة واستقلال الفكر
بهذا وما سبقه تم للإنسان بمقتضى دينه أمران عظيمان طالما حرم منهما وهما: استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر، وبهما كملت له إنسانيته واستعد لأن يبلغ من السعادة ما هيأه االله له بحكم الفطرة التي فطر عليها وقد قال بعض حكماء الغربيين من متأخريهم إن نشأة المدينة في أوربا إنما قامت على هذين الأصلين فلم تنهض النفوس للعمل ولم تتحرك العقول للبحث والنظر إلا بعد أن عرف العدد الكثير أنفسهم، وأن لهم حقا في تصريف اختيارهم وفي طلب الحقائق بعقولهم ولم يصل إليهم هذا النوع من العرفان إلا في الجيل السادس عشر من ميلاد المسيح، وقرر ذلك الحكيم: أنه شعاع سطع عليهم من آداب الإسلام ومعارف المحققين من أهله من تلك الأزمان.
الإسلام ضد الحجر والكهانة
رفع الاسلام بكتابه المنزل ما كان قد وضعه رؤساء الأديان من الحجر على عقول المتدينين في فهم الكتب السماوية استئثارًا من أولئك الرؤساء بحق الفهم لأنفسهم وضنًا به على كل من لم يلبس لباسهم ولم يسلك مسلكهم لنيل تلك الرتب المقدسة، ففرضوا على العامة أو أباحوا لهم أن يقرؤوا قطعًا من تلك الكتب، لكن على شريطة أن لا يفهموها ولا أن يطيلوا أنظارهم إلى ما ترمى إليه، ثم غالوا في ذلك فحرموا أنفسهم أيضًا مزية الفهم إلا قليلًا ورموا عقولهم بالقصور عن إدراك ما جاء في الشرائع والنبوات ووقفوا كما وقفوا بالناس عند تلاوة الألفاظ تعبدًا بالأصوات والحروف فذهبوا بحكمة الإرسال، فجاء القرآن يلبسهم عار ما فعلوا فقال: )وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ( )مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( أما الأماني ففسرت بالقراءت والتلاوات أي لا يعلمون منه إلا أن يتلوه، وإذا ظنوا أنهم على شيء مما دعا إليه فهو عن غير علم بما أودعه وبلا برهان على ما تخيلوه عقيدة وظنوه دينًا، وإذا عنَّ لأحدهم أن يبين شيئًا من أحكامه ومقاصده لشهوة دفعته إلى ذلك جاء فيما يقول بما ليس منه على بينة واعتسف في التأويل وقال هذا من عند االله )فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا … يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ( أما الذين قال إنهم لم يحملوا التوراة وهى بين أيديهم بعد ما حملوها فهم الذين لم يعرفوا منها إلا الألفاظ ولم تسم عقولهم إلى درك ما أودعته من الشرائع والأحكام فعميت عليهم بذلك طرق الاهتداء بها وطمست عن أعينهم أعلام الهداية التي نصبت بإنزالها، فحق عليهم ذلك المثل الذى أظهر شأنهم فيما لا يليق بنفس بشرية أن تظهر به مثل الحمار الذى يحمل الكتب ولا يستفيد من حملها إلا العناء والتعب وقصم الظهر وانهيار النفس وما أشنع شأن قوم انقلبت بهم الحال فما كان سببًا في إسعادهم وهو التنزيل والشريعة أصبح سببًا في شقائهم بالجهل والغباوة، وبهذا التقريع ونحوه وبالدعوة العامة إلى الفهم وتمحيص الألباب للتفقه واليقين مما هو منتشر في القرآن العزيز، فرض الإسلام على كل ذي دين أن يأخذ بحظه من علم ما أودع االله في كتبه وما قرر من شرعه وجعل الناس في ذلك سواء بعد استيفاء الشرط بإعداد ما لا بد منه للفهم وهو سهل المنال على الجمهور الأعظم من المتدينين لا تختص به طبقة من الطبقات ولا يحتكر مزيتة وقت من الأوقات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ أصول التربية المساعد- جامعة دمياط- مصر.
[1] طه جابر العلواني: نحو التجديد والاجتهاد، القاهرة، دار تنوير للنشر والتوزيع، 2008، ص63
[2] هينمة: الصوت الخفي.