يشرب الشاي في المقهى الذي يحتشد بالذين يعيشون على الهامش؛ يتصفح جريدة الصباح؛ لا جديد فيها؛ كاد أن يحفظ سطورها؛ لا يمل من قراءة الإعلانات المبوبة لعل وعسى يجد وظيفة خالية؛ يحدق بعينيه في المارين؛ أمواج تغدو وتروح في شوارع مدينة لا تنام؛ امرأة تحمل أرغفة الخبز وتهرول كأن قطارا يوشك أن يفوتها؛ فتاة تعدل من زينتها قد أخرجت مرآة صغيرة من حقيبتها الفارغة إلا من هاتف يمتلئ بآلاف من المعجبين؛ تحادثهم ليالي التسكع، تتقيأ مرغمة؛ أية تفاهة تتدثر بها!
رحم جاف كما أرض أصيبت بالتصحر.
عربات سوداء تزمجر فتثير فزعا، رجال مقنعون بأياديهم هراوات ينتشرون في كل مكان، دوي رصاص يهز الأمكنة المصابة بالموات؛ أصوات متداخلة وهتافات، ينظر شاشة التلفاز المعلقة في المقهى الباهت؛ الأشياء تصاب بالوهن؛ هنا مر الذين تسكعوا في أردية الظلام؛ يتسولون قطرات الحياة؛ النيل يجري؛ أغنيات مثيرة؛ يجول بعينيه في وجوه العابرين؛ شيء غير معتاد؛ ينظر بعيدا؛ تعاود ذبابة طنينها، تحسبه كومة من نفايات؛ يستسلم لها مرة فتدخل فمه؛ يهشها بالصحيفة التي في يديه؛ ينتابه السأم، يرتشف بعضا من الشاي، يأخذه الخدر حيث يوم شتوي طويل؛ يستدفئ بالشمس وقد أظهرت وجها آخر للحياة!
يتلفت حوله؛ صوت واهن يتسرب إلى أذنيه؛ أرغفة الخبز ينادون عليها؛ يسخر منهم؛ هؤلاء يحلمون بالعيش؛ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!
يتذكر مقولة المسيح؛ كم كان حكيما في زمن الضلال!
أليست هناك مفردات أخرى، أزمنة للشمس وضحاها؟
ترى ما يفعل؟
طعم الخيبة مر؛ رغم ذلك اعتاد عليه؛ قد يفلح هؤلاء يوما في أخذ قبضة من وهج؛ الليل شديد البرودة في نهاية كانون الأول؛ تجمعوا وقد أشعلوا نارا للغد؛ يحمل أحدهم بقايا أخشاب من بناية عتيقة؛ يفنون أهازيج جميلة؛ يتردد صداها في أنحاء مصابة بالخرس؛ تتابع الجموع تتجه صوب الميدان.
وجوه المارين يستنكرها؛ من أين أتى هؤلاء؟
يسأل نفسه!
يبدو أنهم ولدوا في غفلة من ذلك الساخر دائما؛ “دعهم يتسلون” تلك مقولته الأثيرة؛ مثل شجرة نخرها السوس خرج إليهم عبر شاشة متقزمة مثل الوطن.
الجوعى يبحثون عن أرغفة تسد جوعتهم، يخرج الذي حكم بأمرها فيعلن وظائف جديدة؛ يتوعد هؤلاء العابرين الحواجز بسبع عجاف؛ يسخرون منه؛ الفرعون يعيش لحظاته الأخيرة، يستجدي موعدا، تموج الشوارع بطوفان يهدر، ينظر الميدان الأرحب، تعلوه رايات وأناشيد، تهدر الأصوات بشرا، يحتسي مزيدا من أكواب الشاي تآكلت شفتيها؛ يبصق في نزق، كلب يواقع أخرى في ممر خلفي؛ مدينة تمتلئ بالحماقات!
يعاوده الخدر؛ يأخذ في النوم، يركله ذو قناع أسود؛ يطالبه بإثبات الهوية؛ يحرك يده في جيب سترته؛ يخرج ورقة صفراء؛ يصاب ذو القناع الأسود بالدهشة؛ شهادة وفاة؛ يهزه في عنف؛ يقتاده إلى العربة السرية قريبا من الميدان؛ مئات غيره يحملون الورقة الصفراء، ينهالون عليهم بالعصي!
تتواصل أمواج العابرين الشوارع والحارات والأزقة؛ تتجمع عصافير خضراء؛ تدوي صيحة وراء أخرى؛ عند مفترق الطرق أمواج من الحالمين برغيف خبز ونسمة هواء!
ينتصف نهار يوم شتوي؛ يشتد البرد؛ تتدافع أمواج من كل مكان، يجرفه تيار العابرين الحواجز، يجد نفسه في مكان الحلم الذي راوده حين كانت الحياة تتسع لأمثاله؛ قريبا من هنا الجامعة وقد نسج فيها ثوب أمانيه؛ يتذكر عبدالحميد الديب وقد ألقى بنفسه في النيل؛ ربما كان يشبهه، اغتال الفقر أجمل سنواته؛ يتذكر سكناه بين السرايات وكوبري ثروت؛ يوم أن جاء كانت ساعة الجامعة تتراقص له، توسع له مكانا، هل يعود الزمن؟
ساعتها سيرسم لوحة جميلة؛ لن يجلس على مقاعد المقاهي الباهتة؛ يمسك بالقلم ويدون حكاياته للصغار، يترنم بأبيات شعر حلوة؛ يغازل فتاته؛ سيعود فتى تراقصه الأحلام! الميدان يتسمع لأنات المقهورين؛ يمزق الورقة الصفراء، يوسع صدره للهواء؛ يرسم علامة الأمل؛ يراها من بعيد؛ تبتسم له؛ يبتني خيمة؛ في هذا المكان ولد من جديد!