ينطلق المرجفون من منكري السنة في هذه الشبهة من فهمهم السقيم لأقوال العلماء
يدَّعي منكرو السنة “قلة الصحيح في محفوظ البخاري” ويستندون في ذلك إلى ما ذكره الإمام البخاري في مقدمته التي صدر بها صحيحه، وما نقل عنه من أنه كان يحفظ ستمائة ألف حديث، ومع ذلك لم يدون منها في صحيحه إلا أربعة آلاف حديث مع حذف المكرر، وحوالي سبعة آلاف حديث بالمكرر، وقد استنتج منكرو السُّنَّة، من هذا التنظير بين المحفوظ والمكتوب أن البخاري رضي الله عنه لم يصح عنده من ستمائة ألف حديث إلا ما كتبه هو في صحيحه، بل إن بعض هؤلاء الموتورين شكك في الحديث النبوي، فادعى أن 97% من الأحاديث النبوية الشريفة مكذوب على رسول الله لأسباب سياسة؟!
مما يعني أن جملة الأحاديث النبوية كلها لم يصح منها إلا 3% فقط؟!
لم يدعِ الإمام البخاري رحمه الله أن كل ما حفظه من أحاديث كان صحيحاً
وهذه دعوى صريحة إلى نزع الثقة عن السُّنَّة النبوية كلها ومحوها من الوجود، ولنضرب لذلك مثلاً: لو أن جائعاً وكاد أن يهلك من الجوع ثم وجد أمامه مائة تمرة صالحة للأكل، فهم بأن يتناول بعضاً منها لإنقاذ نفسه من الجوع، إلا أنه وجد رجلاً آخر يصيح به قائلاً: احذر الأكل من هذا التمر، لأن 97 تمرة منها محقونة بمادة سمية تقتل من أكلها في الحال، فماذا سيكون رد الفعل؟
رد الفعل الطبيعي سيكون التوقف الحذر عن الأكل، لأن فيه تعرضاً للموت، أو قل للانتحار، وهذا ما يريده الخَرَّاصون من منكري السُّنَّة من هذه الحملات التي يشنونها ضد السُّنَّة النبوية. ([1])
كان الإمام البخاري إذا أراد أن يكتب حديثاً في صحيحه توضأ ثم صلى استخارة
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
ولتفنيد هذه الشبهة المثارة أقول: إن هذه الشبهة خفيفة الوزن جداً، ومنكرو السُّنَّة يعلمون ذلك، ولكن الرغبة المرضية في تصيد الطعون والمعايب، حملتهم على هذا العناد الممقوت، مع علمهم كذلك برد العلماء عليهم.
صحيح أن البخاري – كما قال هو نفسه – كان يحفظ ستمائة ألف حديث، وصحيح أنه لم يدون منها إلا أربعة آلاف حديث، وليس معنى هذا أن الإمام البخاري لم يصح عنده من محفوظه (ستمائة ألف حديث) إلا هذا القدر القليل (أربعة آلاف حديث)؛ وذلك لأن البخاري – رضي الله عنه – ألزم نفسه منهجاً في تدوين الحديث، وهو كتابة حديثين اثنين في اليوم الواحد، وكان يتوضأ ويصلي ركعتي الاستخارة قبل أن يضعهما في صحيحه المعروف؛ ولذلك استغرق تأليف صحيحه ست عشرة سنة، وقد حرص البخاري – رحمه الله – على تدوين الصحيح، ولكنه لم يدون كل ما صح عنده، حيث قال: “ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح مخافة الطول”([2])
كفَّر العلماءُ كلَ من أنكر حديثاً نبوياً ثبتت صحته وهو يعلم بصحته
ونحن لا نقول إن الستمائة ألف حديث التي كان يحفظها البخاري رحمه الله كلها صحيحة، ولم يدَّعِ هو ذلك؛ ومن الطبيعي أن طالب العلم أثناء حفظه ودراسته يتعرض للكثير من المعلومات الصحيحة وغير الصحيحة، ولكن الذي نرفضه من هؤلاء هو ادعاؤهم أن ما عدا ما دَونه في صحيحه كان السبب في ترك تدوينه هو عدم صحته كما يدَّعي الخَرَّاصُون من منكري السُّنَّة والذين غالوا في الحمل عليها بغية عزلها عن حياة المسلمين.
وهب أن الصحيح من محفوظ البخاري خمسمائة ألف حديث فكم كان يلزمه من الوقت ليفرغ من تدوينها كلها، والمعروف أنه لم يكن يكتب إلا حديثين في اليوم الواحد؟
إنه يحتاج إلى 714 سنة تقريباً كان ينبغي أن يعيشها البخاري بعد الطفولة، وقبل الشيخوخة، والمعروف أن عمره لم يتجاوز الستين إلا بقليل شاملاً سنة نشأته الأولى.
شبهة اليوم خفيفة الوزن ولكنها خطيرة لما يترتب عليها من عدم قبول السنة في مجملها
كما أن للإمام البخاري رحمه الله عذراً أو أعذاراً أخرى، فهو لم يكن مجرد سارد لما دونه من الأحاديث، بل كان تدوينه موزعاً على أبواب الفقه وفروعها الدقيقة، وكان يُقَطِع الحديث الواحد أجزاء، يضع كل جزء في مقامه من علم الفقه، مع وضع عناوين لمسائل الفقه المسوق من أجلها الحديث.
ومن له دراية بعمل البخاري في صحيحه يراه يبدي آراءه في كثير من المسائل، مع رغبته في عدم الإطالة في صحيحه كما صرح بذلك هو في العبارة التي نقلناها عنه فيما تقدم، هذا هو الحق الذي ينبغي أن يقال في تدوين البخاري رضي الله عنه، لا ما يقوله منكرو السُّنَّة المرجفون.
ونسوق إلى هؤلاء المرجفين بعض أقوال العلماء في حكم إنكار الأحاديث الصحيحة:
قال الإمام إسحاق بن راهويه: (من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر)، وقال السيوطي في كتابه: “مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة”: (فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر، وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى أو من شاء من فرق الكفرة)، وقال العلامة ابن الوزير في كتابه: “العواصم والقواصم”: (إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح).([3])
وقال الإمام النووي رحمه الله في مقدمة شرح مسلم: اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد.([4])
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة – د. عبد العظيم المطعني – 1/70
[2] – انظر: كتاب “تدريب الراوي”: 1/98
[3] – العواصم من القواصم – ابن الوزير – 2/274
[4] – مقدمة شرح مسلم للإمام النووي (1/14)