وفاة خالد بن الوليد رضي الله عنه
أسرته وقبيلته
ينتمي خالد رضي الله عنه إلى قبيلة “بني مخزوم” التي كان لها شرف عظيم ومكانة كبيرة في الجاهلية، وكانت على قدر كبير من الجاه والثراء، وكانت بينهم وبين قريش مصاهرة متبادلة، وكان منهم الكثير من السابقين للإسلام، منهم: “أبو سلمة بن عبد الأسد”، و”الأرقم بن أبي الأرقم” الذي كانت داره أول مسجد للإسلام، وأول مدرسة للدعوة الإسلامية، وكانت أسرة “خالد” رضي الله عنه ذات منزلة متميزة في بني مخزوم؛ فعمه “أبو أمية بن المغيرة” كان معروفًا بالحكمة والفضل، وكان مشهورًا بالجود والكرم، وهو الذي أشار على قبائل قريش بتحكيم أول من يدخل عليهم حينما اختلفوا حول وضع الحجر الأسود وكادوا يقتتلون، وعمه “هشام بن المغيرة” كان من سادات قريش وأشرافها، وهو الذي قاد بني مخزوم في “حرب الفجار”، أما أبوه فهو “عبد شمس الوليد بن المغيرة المخزومي”، وكان ذا جاه عريض وشرف رفيع في قريش، وكان معروفًا بالحكمة والعقل؛ فكان أحد حكام قريش في الجاهلية، وكان ثَريًّا صاحب ضياع وبساتين لا ينقطع ثمرها طوال العام.
إسلامه
أسلم خالد قبل فتح مكة بستة أشهر فقط في (صفر 8 هـ/ يونيو 629م)، وقد سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام خالد، وقال له حينما أقبل عليه: “الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير”(1) وفرح المسلمون بانضمام خالد إليهم، فقد أعزه الله بالإسلام كما أعز الإسلام به، وتحول عداء خالد للإسلام والمسلمين إلى حب وتراحم، وانقلبت موالاته للكافرين إلى عداء سافر، وكراهية متأججة، وجولات متلاحقة من الصراع والقتال، ويعتبر خالد بن الوليد رضي الله عنه من أجلّ الصحابة وأبرعهم وأشجعهم، فهو سيف الله المسلول الذي لم يُقهر في جاهلية ولا إسلام.
نصرته للإسلام
شهد خالد رضي الله عنه مؤتة، وانتهت إليه الإمارة يومئذٍ من غير إمرة، فقاتل يومئذ قتالاً شديدًا لم يُرَ مثله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيفٌ من سيوف الله، ففتح الله على يديه”، ومن يومئذٍ سُمِّي “سيف الله”، وشهد خيبر وحنينًا، وفتح مكة وأبلى بلاءً حسنًا، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى “العُزَّى” -وكانت لهوازن- فكسر قمتها أولاً ثم دعثرها وجعل يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك، ثم حرقها(2).
قتاله المرتدين ومانعي الزكاة
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم شارك خالد في قتال المرتدين في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد ظن بعض المنافقين وضعاف الإيمان أن الفرصة قد أصبحت سانحة لهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ للانقضاض على هذا الدين، فمنهم من ادعى النبوية، ومنهم من تمرد على الإسلام ومنع الزكاة، ومنهم من ارتد عن الإسلام، وقد واجه الخليفة الأول تلك الفتنة بشجاعة وحزم، وشارك خالد بن الوليد بنصيب وافر في التصدي لهذه الفتنة والقضاء عليها، حينما وجهه أبو بكر رضي الله عنه لقتال طليحة بن خويلد الأسدي وكان قد تنبأ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حينما علم بمرضه بعد حجة الوداع، ولكن خطره تفاقم وازدادت فتنته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والتفاف كثير من القبائل حوله، واستطاع خالد أن يلحق بطليحة وجيشه هزيمة منكرة، ثم سار خالد ومن معه إلى مالك بن نويرة الذي منع الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما علم مالك بقدومه أمر قومه بالتفرق حتى لا يظفر بهم خالد، ولكن خالدا تمكن من أسره في نفر من قومه، وخرج خالد بعد ذلك لقتال مسيلمة الكذاب الذي كان من أشد أولئك المتنبئين خطرًا، ومن أكثرهم أعوانًا وجندًا، ودارت معركة عنيفة بين الجانبين، انتهت بهزيمة “بني حنيفة” ومقتل “مسيلمة”.
فتوحاته في العراق
ومع بدايات عام 12هـ/ 633م بعد أن قضى أبو بكر رضي الله عنه على فتنة الردة التي كادت تمزق الأمة وتقضي على الإسلام، توجه الصديق ببصره إلى العراق يريد تأمين حدود الدولة الإسلامية، وكسر شوكة الفرس المتربصين بالإسلام، وكان خالد في طليعة القادة الذين أرسلهم أبو بكر رضي الله عنه لتلك المهمة، واستطاع خالد أن يحقق عددًا من الانتصارات على الفرس في الأبلة والمذار والولجة وأليس، وواصل خالد تقدمه نحو الحيرة ففتحها بعد أن صالحه أهلها على الجزية، واستمر خالد في تقدمه وفتوحاته حتى فتح جانبًا كبيرًا من العراق، ثم اتجه إلى الأنبار ليفتحها، ولكن أهلها تحصنوا بها، وكان حولها خندق عظيم يصعب اجتيازه، ولكن خالدًا لم تعجزه الحيلة، فأمر جنوده برمي الجنود المتحصنين بالسهام في عيونهم، حتى أصابوا نحو ألف عين منهم، ثم عمد إلى الإبل الضعاف والهزيلة، فنحرها وألقى بها في أضيق جانب من الخندق، حتى صنع جسرًا استطاع العبور عليه هو وفرسان المسلمين تحت وابل من السهام أطلقه رماته لحمايتهم من الأعداء المتربصين بهم من فوق أسوار الحصن العالية المنيعة، فلما رأى قائد الفرس ما صنع خالد وجنوده، طلب الصلح، وأصبحت الأنبار في قبضة المسلمين، واستمرت فتوحاته حتى جاءه رسول برسالة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتخبره بعزله عن إمارة الجيش وتولية أبي عبيدة رضي الله عنه بدلا منه، وكانت المعركة لا تزال على أشدها بين المسلمين والروم، فكتم خالد النبأ حتى تم النصر للمسلمين، فسلم الرسالة لأبي عبيدة ونزل له عن قيادة الجيش.
وفاته
لما حضرته رضي الله عنه الوفاة قال: “لقد شهدت مائة زحف أو نحوها وما في بدني موضع شبرٍ إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، وهـا أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء! وما لي من عملٍ أرجى من لا إله إلا الله وأنا متترِّس بها”(3)، وفي الثامن عشر من رمضان من عام 21هـ توفي خالد رضي الله عنه، فحزن عليه عمر رضي الله عنه والمسلمون حزنًا شديدًا، حتى قال عمر رضي الله عنه للرجل الذي طلب منه أن ينهى النساء عن البكاء، فقال: “دع نساء بني مخزوم يبكين على أبي سليمان، فإنهن لا يكذبن، فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي”(4)، وقد جعل سلاحه وفرسه في سبيل الله، وقبر خالد بن الوليد رضي الله عنه في دمشق مازال شاهداً على قتاله للروم بالشام والفرس بالعراق، وقد رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثًا، وقد ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال: “لقد اندقَّ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية”(5).
______________________________
(1) أخرجه الواقدي في مغازيه (2/ 749).
(2) ابن كثير: السيرة النبوية 3/597.
(3) صفي الدين الأنصاري: خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص103.
(4) ابن كثير: البداية والنهاية 7/132.
(5) البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4017).