رحل الإمام المتفرد وعلامة الأمة وفقيه العصر ورائد الفكر الوسطي وأحد أبرز أعلام الحركة الإسلامية في عصرنا صاحب مذهب التيسير في الفتوى بعلمٍ، والتبشير في الدعوة بحلم، بعد قرنٍ حافل بخدمة الدين الإسلامي ونشر العلم الصحيح وجمع كلمة المسلمين، ملبياً نداء الله جل في علاه في الدّوحة عاصمة دولة قطر ظهر اليوم الإثنين الموافق لـــ 30 صفر 1444هـ/ 26 سبتمبر 2022م، وذلك بعد 96 عامًا أوقف جُلها على نشر العلم والدّعوة إلى الله تعالى وتربية الأجيال، والعمل الإسلاميّ الدّؤوب، ونصرة قضايا الأمة من مشرقها إلى مغربها. رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى وغفر لنا وله.
أولاً: مشاعر وخواطر في ساعة الحدث
فاضت العين بالدمع وحزن القلب على خبر وفاة شيخي وإمامي العلامة الفقيه المجتهد والداعية الغيور الشجاع والأستاذ المجدد الشيخ د. يوسف عبدالله القرضاوي (رحمه الله)، والآن أخط بهذا القلم واصفاً جانباً من مشاعري وموقفي تجاه هذا الحدث، حيث تعجز الكلمات وتضيق الصفحات عن تعداد مآثره وبصماته ومشروعاته الفكرية والدعوية والإنسانية والتربوية التي ساهم بها في طريق العلم والدعوة وخدمة الإسلام في كل مكان في هذا العالم.
تُوفي من شغل الناس بعلمه وفقهه واجتهاده، إذ حاز علماً وفكراً وعملاً وسلوكاً على أساس منطقي ووسطي سليم ومتوازن، حتى عَدّه أهل العلم والتفكر أستاذاً للوسطية ونموذجاً للاعتدال، بعد أن نهلت وتربت على كتبه وأقواله أجيال وأجيال، وترك إرثاً فكرياً وفقهياً سيظل مرجعاً على مرّ الأزمان، وملأت سيرته العطرة في العلم والأخلاق الآفاق، فكانت شمولية علمه امتدت لتشمل الفقه والأصول والقرآن والسُّنة النبوية والدعوة والتربية والفكر والسياسة الشرعية والاقتصاد والحركات الإسلامية واللغة والأدب. وقال فيه أحد أهل العلم في مركز تكوين العلماء:
أتيت في أمة في سجن غفلتها فصرت يوسف مضاء بلا لين
ولم يَعِشْ الشيخ يوسف القرضاوي مخادعاً لأمته ولا من أعوان السلاطين بل عاش حراً شجاعاً مهاباً ولا يخاف في الله لومة لائم ينصح لدينه وأمته، وكان على الدوام يردد:
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي وأموت مبتسماً ليحيا ديني
وكتب فيه الشاعر السوري أنس الدغيم أبياتاً في لحظة الحدث قائلاً:
في ذمّة الله هذا الواقفُ الجبَلُ العالِمُ الفَذُّ والعلّامةُ الرَّجُلُ
شيخُ المواقف ما لانَتْ عريكتُهُ في الحقِّ أو ردَّه عن رأيه وَجَلُ
ستٌّ وتسعونَ والهمّاتُ عاليةٌ كأنّها في سماءِ الأمّةِ الشُّعَلُ
إنْ كان وافاكَ مِن بعدِ المدى أجلٌ فما لذِكرِكَ فيما بَينَنا أجَلُ.
ثانياً: شهادتي وتجربتي مع شيخي وإمامي الدكتور يوسف القرضاوي
دوَّنت في مقالٍ منذ شهور شهادتي بأستاذنا وشيخنا العلامة د. يوسف القرضاوي (رحمه الله) تحت عنوان “القرضاوي ترجم الإسلام فكراً وسلوكاً وانحاز للإنسان”.
وقلت فيه:
إن الشيخ القرضاوي العنوان الأبرز والأنصع للوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. حيث جمع بين الفكر العلمي الدقيق، المتمثل في شرح وتيسير الفكر الإسلامي للأجيال الجديدة، وبين الترجمة العملية للإسلام في حياتنا المعاصرة.
ولقد عرفت الشيخ القرضاوي عن قرب لعدة أعوام، واطلعت على أغلب كتبه التي انشغلت بهموم الفكر الإسلامي ومشاغل المسلمين، وقضايا التجديد التي تفرضها مستجدات الحياة، وأدركت حجم الفائدة التي قدمها ليس فقط للإسلام والمسلمين، وإنما أيضا لقضايا التعايش والحوار بين مختلف الثقافات والحضارات.
وأفضاله على الصحوة الإسلامية لا تعد ولا تحصى، فله أفضال كثيرة بعد الله سبحانه وتعالى، على أبناء الصحوة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم العربي، وعلى ليبيا تحديداً، وأنه أسهم في إنقاذ مئات الشباب الليبي المسلم من آفة الاستبداد يوم توسط بينهم وبين السلطات أيام القذافي، كما أنقذهم أيضاً من آفة التطرف من خلال فهم مستنير للإسلام، وطرق الدفاع عنه مع الخصوم.
وما زلت أذكر للشيخ القرضاوي نصائحه وتشجيعه لي للحوار مع المعتقلين الإسلاميين في السجون الليبية أيام النظام البائد، وهي حوارات أثمرت مراجعات دينية تستحق أن تتحول إلى مراجع فكرية ودينية حقيقية، لأنها تعبير عن واقع عاشته الصحوة الإسلامية المعاصرة.
وكان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى من خلال وساطته مع النظام الليبي البائد في إخراج شباب الإخوان من السجون الليبية، والإسهام في إدارة حوار فكري وسياسي مهم في ليبيا، ولقد أوضح الشيخ القرضاوي رحمه الله من خلال كتبه التي كُتبت بلغة عربية ميسرة، أن الإسلام هو دين الفطرة، وأنه جاء لسعادة الإنسان وتهذيب سلوكه وتيسير أمور حياته، فضلا عن أنه قدم له الجواب الشافي عن عالم الغيب، الذي احتارت البرية في كنه أسراره بلغة عربية قربته من عامة الناس، وساهم إلى جانب علماء آخرين في تحرير المسلم المعاصر من هيمنة فتوى السلطان التي احتكرت الدين على مدى عمر الدولة الوطنية الحديثة.
إن الشيخ القرضاوي هو داعية إلى الله عن علم ودراية، وبسلاح الكلمة الطيبة، التي استطاع من خلالها أن يصل إلى قلوب ملايين البشر في مختلف أصقاع العالم، ورغم ما لاقاه الشيخ القرضاوي من النظام المصري الأمرين، سواء في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أو حتى في شيخوخته، حيث استهدف أرحامه بالسجن والملاحقة، إلا أنه مع ذلك ظل متمسكاً بسماحة الدعوة إلى الله، واحتسب ذلك عند الله تعالى، لا بل إنه لاقى ذلك بالصبر الجميل والدعوة إلى التمسك بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا”. وكذلك “لم يعرف على الشيخ القرضاوي في أي من كتبه، ولا حتى في البرامج الدينية التي أقامها على مدى أعوام لإشاعة الفكر الديني الوسطي المعتدل، أنه دعا إلى العنف، بل كان داعية حوار وتسامح وتعايش بين المختلفين.
إن الوسطية والاعتدال سمتان بارزتان للشيخ الجليل، فضلاً عن امتلاكه مصادر القوة، التي تمثلت في الإعلام، حيث كان الشيخ القرضاوي يُربي شباب الإسلام على التمسك بالدين وبقيمه وضوابطه، واعتماد الحوار بالكلمة الحسنة سبيلاً للتعامل مع المخالفين، كانت من أهم عوامل القوة التي امتلكها الشيخ القرضاوي والتي أسهم من خلالها في نحت ما أصبح يعرف بمدرسة الوسطية والاعتدال التي أقضت مضاجع الطغاة في مختلف أصقاع عالمنا المعاصر.
لقد حوَّل الشيخ القرضاوي محنة الاستبداد والظلم الذي تعرض له في مصر، والذي دفعه إلى مغادرة بلاده، إلى منحة، حيث انشغل بالعلم والتصنيف، والترويج للفكر الديني المستنير، بعيداً عن المصالح الحزبية والسياسية الضيقة لأي تنظيم سياسي.
الشيخ القرضاوي مع أنه كتب ونَظَّر لفكر الإخوان المسلمين، وأرخ لهم، واعتبر أنهم يمثلون التعبير الأكثر نضجاً للترجمة الفعلية لمعاني الإسلام، إلا أنه كان بفكره تعبيراً عن صورة الإسلام السمحاء التي تتجاوز الأحزاب والتنظيمات لتصل إلى الإنسان حيثما كان.
وكتبت بأن الفكر النير الذي امتاز به الشيخ القرضاوي رحمه الله، ما كان له أن ينتشر ويُحدث هذه النقلة النوعية في الخطاب الإسلامي في العالم، لولا الله سبحانه وتعالى أولاً ثم أنه وجد دعماً وسنداً من دولة قطر، التي وفرت له ليس فقط الأمان الذي افتقده في بلده، وإنما منحته المنبر الإعلامي الذي من خلاله وصل إلى مختلف أصقاع عالمنا العربي.
علينا أن نتذكر جميعاً الدور الكبير الذي لعبه برنامج “الشريعة والحياة”، الذي كانت تبثه قناة “الجزيرة” على مدى عدة أعوام، وهو البرنامج الأكثر قرباً من المسلمين، تعرفوا من خلاله على الدين في صورته الأكثر تسامحاً وقرباً من الناس، فضلا عن أنه كان منبرا للفتوى التي أعادت صياغة عقل المسلم المعاصر بشكل عام، ولقد أزال برنامج الشريعة والحياة، الذي قدمه الشيخ يوسف القرضاوي على مدى أعوام، كثيرا من اللبس الذي كان يلف عددا من القضايا، وأعاد النظر في كثير من القضايا الفقهية، فضلا عن إعادة النظر في العلاقة بين الراعي والرعية، والتي يمكن اعتبارها واحدة من الروافع الفكرية التي أسست لثورات الربيع العربي، التي كانت عبارة عن صرخة من أجل الحرية أولا، باعتبارها مدخلا ليس فقط لاختيار الحاكم وإنما أيضا لمحاسبته.
إن الحرية التي امتازت بها دولة قطر، والتي حمل الشيخ القرضاوي جنسيتها، كان لها الأثر البالغ في امتداد ليس فكر الشيخ القرضاوي فحسب، وإنما في انتشار فكر الوسطية والاعتدال، الذي يقوم على الإقناع بالحجة والموعظة الحسنة”.
ولا ننسى الدور المحوري الذي قام القرضاوي في تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي تحول إلى مؤسسة فكرية مرموقة تجمع خيرة قادة الفكر الديني في العالم، وتقدم النموذج الأمثل لصفاء الدين عن أي توظيف سياسي.
وكما أن السبب الجوهري الذي جلب للشيخ القرضاوي هذه الخصومات في عدد من العواصم العربية والعالمية، انحيازه لحقوق الإنسان ولحقوق الشعوب في اختيار حكامها، وكان من كبار الدعاة للقيم الإنسانية، ولعالم يقوم على العدل والإنصاف بين مختلف مكوناته”. ومن هنا نفهم عداء الصهاينة للشيخ القرضاوي، لأنه رفض احتلالهم لفلسطين، واعتبر ذلك عدوانا يستوجب المقاومة، ومن هنا أيضا نفهم لماذا منعت دول غربية موالية للصهاينة الشيخ القرضاوي من دخول أراضيها، لأنه صاحب حجة بليغة في الانحياز للحق وأصحابه.
أدى الشيخ القرضاوي الذي عليه في تبليغ الرسالة وأداء الأمانة والنصح لهذه الأمة، ووفقه الله توفيقا عظيما في خدمة الإسلام.
ولا أقول في لحظات هذا الحدث الكبير إلا ما يرضي الله عز وجل إنا لله وإنا إليه راجعون.